باتت التقنية واحدة من العوامل الرئيسية التي تؤثر في حياتنا اليومية. ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى منا تعتبر من "المستهلكين" للتكنولوجيا، أي الذين يعتمدون على الشركات أو على المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات لتلبية احتياجاتنا التقنية. بينما الأفراد الذين لديهم أفكار خلاقة ويمتلكون المهارات التقنية اللازمة لتحويل أفكارهم إلى واقع ملموس، أي القادرون على "صناعة" التقنية وليس مجرد استهلاكها، فقد حققوا ثروة كبيرة على مدى العقدين الماضيين في قطاع تكنولوجيا المعلومات. فقد قام لاري بيج وسيرجي برين بصناعة محرك البحث الشهير جوجل، فيما اخترع مارك زوكربيرج فيسبوك، وأطلق جاك دورسي كلا من شبكتي تويتر وفورسكوير، في حين قدم جيف بيزوس للعالم موقع أمازون الشهير.

كل هؤلاء المشاهير في عالم الإنترنت وتقنية المعلومات كانت لديهم بضعة أشياء مشتركة:

-1 كانوا صغار السن نسبيا عندما بدؤوا أعمالهم. 2- كانت لديهم أفكار ذات قيمة عالية، والأهم من ذلك، كانوا "تقنيا" مستعدين لتحويل تلك الأفكار المثيرة إلى منتجات حقيقية. كلهم كانوا يمتلكون المهارة البرمجية اللازمة لإطلاق مواقعهم الخاصة ولبناء قواعد بياناتهم الغنية. فاستطاعوا أن يقدموا للعالم منتجات ملموسة ومفيدة وقابلة للاستخدام، وحققت هذه المنتجات النجاح والانتشار على مستوى العالم.

اليوم، لم تعد تعتبر البرمجة مجرد تذكرة لدخول سوق العمل كمبرمج تكنولوجيا المعلومات أو متخصص في علوم الحاسبات. فقد باتت هذه المعرفة ضرورية لابتكار مكان العمل الخاص بك، ولصناعة مشاريعك والنهوض بعملك الحر. أي أنها تمكن الفرد من إطلاق طاقته، وتفتح له الأبواب ليصبح من كبار رجال الأعمال فيما لو حقق مشروعه النجاح المأمول والأمثلة كثيرة.

نتحدث كثيرا عن جيل الشباب وعن كونهم "المواطنين الرقميين الأصليين" Digital Natives عندما يتعلق الأمر بعلاقتهم مع التكنولوجيا. فهم على عكس الأجيال السابقة الذين يوصفون بأنهم "مهاجرون إلى عالم التقنية" (Digital Immigrants)، قد خبروا التقنية صغارا، فوجودها في حياتهم أمرا طبيعيا وتلقائيا. لكن إن سألنا الغالبية منهم: ما الذي تفعله بالضبط مع هذه التكنولوجيا؟ ما علاقتك بها؟ فسيكون الجواب غالبا هو: التصفح والدردشة والألعاب والتواصل مع الأصدقاء. وقد يكون من بينهم من يستخدمها للدراسة أو البحث عن العمل أو في مجالات السياحة والترفيه، ولكن كلها استخدامات لمنتجات الآخرين. فالواحد منهم يستهلك ولا يبدع. فالأمر أشبه بقدرة الإنسان على القراءة دون الكتابة، فالمهارة أو الطلاقة الرقمية الحقيقية، كما يقول المختصون، تتطلب ليس فقط القدرة على الدردشة والتصفح والتفاعل ولكن أيضا القدرة على التصميم والإنشاء والابتكار.

حتى وقت قريب، ركز التعليم الرسمي على تعليم الطلاب، وخاصة في المستويات الدنيا (6-12 سنة)، على مهارات القراءة والكتابة الأساسية: القراءة والكتابة والمفاهيم الحسابية الأساسية. قد تكون هذه المهارات الحيوية كافية للقرن العشرين ولكن هذه ليست للقرن الحالي. لقد غيرت التكنولوجيا كل شيء. من كيف نعيش حياتنا اليومية، إلى كيف ندرس، وكيف نقوم بأعمالنا التجارية وكيف نتعاطى مع الاقتصاد والسياسة. وبالتالي هناك حاجة إلى مجموعة جديدة من المهارات ليظل الأفراد قادرين على المنافسة في زمن العولمة. فالتعلم مدى الحياة صار جزءا من حياة الكبار في ظل اقتصاد متغير.

هناك اليوم حاجة ماسة لمراجعة المهارات الأساسية التي يجب أن تُدَّرس للأطفال في سنوات دراستهم الأولى، فتكون هي تلك التي تمكنهم من مواصلة التعلم في المستقبل. فبالإضافة إلى القراءة والكتابة والرياضيات، هناك حاجة ماسة لمعرفة كيفية فهم وحل المشكلات، ولتطوير مهارات التفكير المنطقي والتحليل النقدي، وجميع المهارات الثلاث يمكن أن تُكتسب كجزء من تعلم برمجة الكمبيوتر. وبعبارة أخرى، فإنهم بحاجة إلى تعلم التفكير الحوسبي Computational Thinking. لكن غالبية المدارس حتى في العالم المتقدم، لا تزال تدرس عددا محدودا من المواد الخاصة بالبرمجة بشكل خجول، هذا إن فعلت.

في عام 2013، حث باراك أوباما الشباب في أميركا على الاهتمام ببرمجة الكمبيوتر في خطاب مسجل وموجود على يوتيوب، من أجل أن يكونوا منتجين لا مستهلكين، وكان مما جاء فيه: "لا تقم فقط بتحميل التطبيق ..شارك في تصميمه!". وفي عام 2016، دق بيل جيتس ومارك زوكربيرج، مع عدد من رواد التكنولوجيا وحكام الولايات وقادة مراحل التعليم العام والأساسي في أميركا، ناقوس الخطر، وذلك من خلال رسالة مفتوحة إلى الكونجرس تحث على الاعتراف بتأخر أميركا في جانب تعليم التقنية للأطفال، وعن حاجة الأطفال الأميركيين والمراهقين والشباب لمعرفة كيف يبرمجون وإلا فإن صدارة أميركا في هذا المجال ستتراجع، وريادتها العالمية ستكون مهددة.

وفي زيارتين قمت بهما هذا العام إلى أميركا وبريطانيا، وجدت رفوف المكتبات العامة والتجارية الكبرى تمتلئ بالعناوين التقنية المتعلقة بتعليم البرمجة وقواعد البيانات للأطفال، بينما لم تسفر رحلتي في معارض الكتب في ثلاث مدن عربية، ولا عبر الإنترنت عن إيجاد كتاب واحد يعلم البرمجة للأطفال باللغة العربية.

وفي بلد نام مثل المملكة العربية السعودية، حيث 24 % من السكان تحت 15 سنة، بحسب الهيئة العامة للإحصاء، فإن تعلم مهارات التقنية وبرمجة الكمبيوتر للناشئة يعتبر مهارة أساسية وجوهرية خاصة لصناعة مجتمع المعرفة. وأيضا لتحقيق رؤية 2030 التي تهدف لتقليل الاعتماد على النفط، والتي من محاورها اقتصاد مزدهر: فرص مثمرة تنافسية جاذبة، استثمار فاعل؛ فإن وجود قاعدة عريضة من التقنيين المؤهلين من شأنه أن يرفع تنافسية المملكة ويجلب الاستثمارات الأجنبية. ومع ذلك فالبرمجة لا تُدرس إلا لفترة وجيزة للطلبة في المدارس الثانوية، وبشكل بدائي. وتُعطى في وقت لاحق على المستوى الجامعي، حيث يتم تدريس البرمجة بشكل معمق فقط لطلاب علوم الحاسب وفي بعض كليات الهندسة. فهي حتى ليست متوفرة كمادة اختيارية لطلبة بقية الكليات العلمية أو الأدبية أو الإدارية.

وفي مشروع قمنا به مع الطلبة خلال العام الدراسي المنصرم، لإنتاج تطبيق يعلم الأطفال البرمجة باللغة العربية وأسميناه (المبرمج الصغير) أردنا معرفة ما إذا كانت البرمجة تُدرس في المراحل الابتدائية، سواء الحكومية أو الأهلية أو العالمية، ووجدنا أن الجواب كان للأسف لا. وحين سألنا العديد من الطلبة الجامعيين الذين يتعلمون حاليا كيفية البرمجة، أجابونا بأنهم يواجهون صعوبات كبيرة في الوقت الذي تعلم البرمجة عندما يتعلق الأمر باستيعاب بعض المفاهيم الأساسية فيها لأنها جديدة تماما تقريبا بالنسبة لهم.

تنبهت بعض الدول المحيطة بنا للتغييرات في سوق العمل ولأهمية المهارات التقنية والبرمجية، فأعلنت دولة الإمارات العربية في الصيف المنصرم البدء في إدخال البرمجة وعلوم الكمبيوتر لكافة المراحل الدراسية.

فالسؤال الذي أختم به مقالي ليس: هل نبدأ بتعليم البرمجة لصغارنا.. وإنما: متى؟!