إلى أي مدى يتغلغل الاقتصاد مع عامل الجغرافيا في صناعة العادات والتقاليد والفهم الديني؟ سأبدأ بتقاليد شرب القهوة في السعودية، نلاحظ مثلاً أن المنطقة الوسطى والشمالية والشرقية ترى أن التقاليد تفرض صب القهوة لملئ قعر الفنجال فقط، ومن المعيب ملئ الفنجال إلى منتصفه بالقهوة، بينما في عسير وكما عرفت في رجال المع، لا يرون بأساً في ملئ الفنجال إلى المنتصف وأكثر من المنتصف بالقهوة، وعندما تحصل مناكفة طفولية بين المناطق في مفهوم الكرم، تجد أن الأمر لا علاقة له بالكرم من قريب أو بعيد بل له علاقة بمسائل الوفرة الاقتصادية، فجنوب الجزيرة العربية ومنها رجال المع قديماً كانت تنتج البن ولا زالت بعض مزارعه قائمة حتى الآن، وهذه الوفرة الاقتصادية من حبوب البن بما فيها من قشر ونواه صنعت سلوكا مختلفا عن سلوك وسط الجزيرة العربية التي تتحول فيها حبة البن إلى مجرد نواه صغيرة ثمينة يصعب الإسراف فيها، ولهذا جاءت فكرة التحرز الشديد في كمية القهوة المصبوبة لكل فنجال وتحويل الفعل المعاكس إلى عيب اجتماعي، بينما في الجنوب ترى ابن البادية الجبلية لا يرى عيباً في أن يقول لصاحب المنزل الريفي: (أكرمك الله... لوتطبج امفنجال إلى امطوق)، ويقصد بذلك إقرع أو أضرب رأس الدلة بالفنجال حتى تصل القهوة إلى طرف الفنجال العلوي الذي يشبهه بالطوق، ولا يرد صاحب المنزل إلا بابتسامة تدل على أنه فهم مدى شوق الضيف للقهوة، لكن تبقى دلة القهوة بيد صاحب المنزل لا يفرط فيها.
بينما نجد عند أهل جدة الأمر يختلف كما لاحظت فلا يستنكفون من أن يضعوا الدلة بين الضيف وصاحب المنزل بعد أن يسكب أول فنجال، ويفسرون ذلك بأنه دلالة على أن الضيف أصبح شريكاً في ملكية الدلة ليصب لنفسه كما يشاء دون خجل، طبعاً الجنوبي قد يشعر بالحرج في أن يمد يده ليزداد بنفسه من دلة صاحب المنزل، ولكن ربما أن ثقافة التجارة التبادلية بالإضافة إلى البيئة الساحلية التي نجدها أيضاً في جازان تصنع نمطاً من الشخصية أكثر أريحية من الشخصية الجبلية، التي عاشت ثقافة التحفز والاستعداد الدائم في كل خطوة تخطوها بين الجبال فهي إما صاعدة أو هابطة، وكلا الأمرين فيهما مشقة، يألفها الجبلي كجزء من حياته اليومية، لكنها تحفر طبيعتها في داخله ليصبح التحفز الدائم من طبيعته، ولولا هذه الكيمياء من التحفز الدائم لبحث عن السهول ليعيش فيها بدلاً من الجبال الصعبة، التي جعلت مساكن أجداده فيها من الحجر وجذوع الأشجار بأحجام مرهقة تضاف إلى طبيعة السير الصعبة أصلاً في الجبل.
هل هذا يفسر الممانعة ضد الحداثة التي ظهرت في أعنف صورها من الجنوب لتنجب لنا كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام)، وهل من خلال هذا التراكم ضد الحداثة منذ الثمانينات وصولاً إلى (كشف الغمة عن علماء الأمة: وعد كيسنجر) نستطيع تفسير تواجد قرابة النصف من أعداد مرتكبي 11 سبتمبر من المحسوبين على المنطقة الجنوبية الجبلية، هل السبب عائد للاقتصاد، أم لطبيعة الأرض، أم لتخلي الجبليين عن زراعة البن؟.
بالنسبة للاقتصاد الريعي فقد تشكل على إثره رأسمال رمزي للحالة السلفية الحنبلية حاول الجنوبيون في زمن مضى مشاركته متخلين عن شافعيتهم القديمة، وليس سراً أن والدي رحمه الله حرص على دخولي إلى كلية الشريعة لأنه كما قال بالحرف الواحد: عبر هذه الكلية فقط وليس أي شيء آخر سواها، سيجد المواطن العادي فرصته في المشاركة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) التي يرجوها، لكني اكتشفت أن المتاح هو المشاركة في الرأسمال الرمزي للحالة السلفية ونفوذها داخل الدولة، مما جعل البعض يتحولون من لهجتهم الجنوبية إلى اللهجة النجدية، إمعاناً في الالتصاق بالرأسمال الرمزي للسلفية، بخلاف ما هو متداول في الجنوب من ذكر اسم الشخص مربوطاً بوالده، دون وجود عيب في ذكر اسم أمه إذا لزم الأمر، فيقال: سعيد بن عبدالله، فإن قيل: من عبدالله، قالوا: عبدالله بن محمد، فإن قيل: عبدالله محمد كثير، فأيهم: قيل عبدالله محمد زوج صالحة بنت علي، فالرجال والنساء أسماء علم بلا حرج من ذكر أسماءهن، ولبعض الزوجات سمعة في الكرم تفوق زوجها، طبعاً كان هذا قديماً قبل هيمنة الرأسمال الرمزي الذي جعل البعض يقوم بإضافة أل التعريف إلى اسم الأب فمثلاً يتحول (عايض بن صالح ) إلى (عايض الصالح).
بالنسبة للأرض الجبلية فهي تصنع محاربين أشداء مناسبين لأي توجهات راديكالية، وتمنيت على وزارة الداخلية أن تتيح لعلماء الاجتماع والنفس عمل دراساتهم الخاصة واحصائياتهم لتحديد المشكلة بشكل علمي وفق معطيات الإنسان والمكان مستنداً على بيانات أكثر توسعاً وشمولية، بدلاً من تحليلات عابرة كتحليلي هذا.
بقيت المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يبحث عنها المواطن في كل الجهات جنوب أو شمال، شرق أو غرب، ستعالج كثيراً من الطرق الأسهل التي يتوهمها الناس وفق ما ألفوه من عاداتهم، وما كرسه الزمن عبر الاقتصاد الريعي والأيديولوجيا الشمولية لينسى الجبلي قطيع غنمه مع المجهولين وتنسى زوجته الترحيب بالضيف لأنه (لا يجوز وحرام)، لنجد الجنوبي وقد أصبح حتى في قهوته يصرخ على ولده: لا تملأ الفنجال... عيب.