كنت في المدينة المنورة لقضاء إجازة عيد الأضحى المبارك في الجوار الطاهر ولقضاء حق الأهل والأقارب بمشاركتهم العيد السعيد وتهنئتهم به. ووجدت الأقارب مثلي في التشوق إلى الاحتفال بتلك المناسبة السعيدة. إلا أن حدثا شاب ذلك التطلعَ بالوجل والانقباض وهو تعرض خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ لعارض صحي.

وقد بدد شيئا من ذلك الوجل والانقباض الذي عمَّ الوطنَ إعلانُ الديوان الملكي المطَمْئن عن حالته الصحية ـ رعاه الله ـ ومع تأكيد البيان على أنه مدفوع بمبدأ الشفافية الذي يؤكد خادم الحرمين الشريفين انتهاجَه في الأمور كلها إلا أنه لم يكن كافيا لكي يطمئنَّ المواطنون على صحة مليكهم الغالي.

لكن إطلالته ـ حفظه الله ـ في ثاني أيام العيد لاستقبال عدد كبير من المسؤولين والمواطنين بددت أكثر ذلك الوجل وأفاضت قدرا كبيرا من الطمأنينة على المواطنين الذين عبروا بمختلف الوسائل عن فرحهم بتلك الإطلالة الكريمة.

وتوَّج ـ حفظه الله ـ تلك الإطلالة بخطابه الذي تميز رغم إيجازه بالعمق والحميمية والصدق. ومن أهم ما عبر عنه ـ رعاه الله ـ حرصه بتلقائية آسرة على أن يؤكد لمواطنيه أنه هو بخير ماداموا هم بخير.

ومن أروع العبارات التي قالها بتلقائية خالصة مماثلة وصفُه للعارض الصحي الذي ألمَّ به. وكان تعقيبه على التسمية الشائعة لذلك العارض، أي "عِرْق النِّساء"، تبرئةً "للنِّساء" من أن يكنَّ مصدرا للألم، وتأكيدا على أنهن لا يأتي منهن "إلا كل خير".

ويعبِّر تأكيده ـ حفظه الله ـ على براءة "النساء" من أن يكن مصدرا للشر والألم عن موقفه المبدئي الذي نعرفه جميعا ويتمثل في الوقوف إلى جانب المرأة السعودية، وكان من نتائجه أن حققت المرأةُ السعودية في السنوات القليلة الماضية حضورا لافتا، وأصبحت المطالبة بصيانة حقوقها، والاعتراف بمكانتها، ومنع التسلط الذكوري عليها، من أبرز الظواهر في الحوار الوطني الثقافي السعودي العام.

وينبع نفي خادم الحرمين الشريفين النسبةَ المجازيَّة الخاطئة لهذا المرض إلى "النِّساء" من حسه المبدئي العميق بالعدل ونفوره الطبيعي من الظلم حتى إن كان مجازيًّا. وتأتي هذه التبرئة الملكية للمرأة من نسبة المرض إليها، وهي النسبة التي أرستها الثقافة الذكورية طوال العصور، مقابلا لإلحاح الثقافة الذكورية على تأكيد تأصُّل خصلة الشر فيها.

ويمكن البرهنة على صدق الحَدْس الطبيعي التلقائي المنصِف لخادم الحرمين الشريفين ـ رعاه الله ـ الذي ينفي علاقة "النِّساء" بهذا المرض، بتأييد اللغة العربية لهذا الحدس. فمما يبين خطأ تسمية هذا المرض بنسبته إلى "النِّساء"، تشاؤما بهن، ما ترصده المعاجم العربية من نفي نسبة هذه التسمية إلى "النِّساء". فتؤكد المعاجم العربية أن الاسم الصحيح لهذا المرض هو "عِرْق النَّسا"، أو "النَّسا" وحسب. ويعني هذا ألا صلة لـ"النِّساء" به، فهو منسوب إلى "عِرْق" (شِريان) يسمى بـ"النَّسا". ولجلاء خطأ التسمية الشائعة لهذا المرض أورد ما يقوله ابن منظور، في معجمه "لسان العرب" الذي يعد أكثر المعاجم العربية إحاطة وتوثيقا:

"والنَّسا: عرق من الورك إلى الكعب، أَلفه منقلبة عن واو لقولهم نَسَوانِ في تثنيته، وقد ذكرت أَيضاً منقلبة عن الياء لقولهم نَسَيانِ؛ أَنشد ثعلب:

ذِي مَحْزِمٍ نَهْدٍ وطَرْفٍ شاخِصِ

وعَصَبٍ عَنْ نَسَوَيْه قـالِـصِ

الأَصمعي: النَّسا، بالفتح مقصور بوزن العَصا، عِرْق يخرج من الوَرِك فيَسْتَبْطِنُ الفخذين ثم يمرّ بالعُرْقوب حتى يبلغ الحافر، فإذا سمنت الدابة انفَلَقت فخذاها بلَحْمَتَين عظيمتين وجَرى النَّسا بينهما واستبان، وإذا هُزِلَت الدابة اضطرَبَت الفخذان وماجَت الرَّبَلَتان وخَفِي النَّسا، وإنما يقال مُنْشَقُ النَّسا، يريد موضع النَّسا. وفي حديث سعد: رَمَيْتُ سُهَيْلَ بن عَمرو يوم بَدْر فقَطَعْتُ نَساه، والأَفصح أَن يقال له النَّسا، لا عِرْقُ النَّسا. ابن سيده: والنسا من الوَرِك إلى الكعب، ولا يقال عِرْقُ النَّسا، وقد غلط فيه ثعلب فأَضافه، والجمع أَنْساء؛ قال أَبو ذؤيب:

مُتَفَلِّقٌ أَنْساؤها عـن قـانِـئٍ كالقُرْطِ صاوٍ، غُبْرُه لا يُرْضَعُ

وإنما قال مُتفلق أَنساؤها، والنَّسا لا يَتفلَّقُ إنما يتفلَّقُ موضعه، أَراد يتفلق فَخِذاها عن موضع النَّسا، لما سَمِنت تفَرَّجت اللحمة فظهر النَّسا. . . .

وإذا قالوا إنه لشَديد النَّسا فإنما يُراد به النَّسا نَفْسُه. ونَسَيْتُه أَنْسِيه نَسْياً فهو مَنْسِيٌّ: ضَرَبْت نَساه. ونَسِيَ الرجلُ يَنْسى نَساً إذا اشتكى نَساه، فهو نَسٍ على فَعِل إذا اشتكى نَساه، وفي المحكم: فهو أَنْسى، والأُنثي نَسْآء، وفي التهذيب نَسْياء، إذا اشْتَكَيا عِرْق النَّسا، وقال ابن السكيت: هو عِرْقُ النَّسا، وقال الأَصمعي: لا يُقال عِرق النَّسا، والعرب لا تقول عِرْق النسا كما لا يقولون عِرْقُ الأَكْحَل، ولا عِرْق الأَبْجَل، إنما هو النَّسا والأَكْحَلُ والأَبْجَل، وأَنشد بيتين لامرئ القيس، وحكى الكسائي وغيره: هو عرق النسا، وحكى أَبو العباس في الفصيح: أَبو عبيد يقال للذي يشتكي نَساه نَسٍ، وقال ابن السكيت: هو النَّسا لهذا العرق؛ قال لبيد:

مِنْ نَسا النَّاشِط، إذْ ثَوَّرْتَـه أَو رَئِيس الأَخْدَرِيّاتِ الأُوَلْ

قال ابن بري: جاء في التفسير عن ابن عباس وغيره كلُّ الطعام كان حِلاًّ لِبني إسْرائيل إلاَّ ما حرَّم إسرائيلُ على نفسه؛ قالوا: حرَّم إسرائيل لحوم الإبل لأَنه كان به عِرْق النَّسا، فإذا ثبت أَنه مسموع فلا وجه لإنكار قولهم عِرْق النسا، وقال: ويكون من باب إضافة المسمى إلى اسمه كحَبْل الوَرِيد ونَحوِه؛

وقال فَرْوة بن مُسَيْك:

لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ كِنْدةَ أَعْـرَضَـتْ كالرِّجْلِ، خانَ الرَّجْلَ عِرْقُ نَسائها

قال: ومما يقوّى قولَهم عِرْق النَّساء قول هِمْيانَ:

كأَنَّما يَيْجَع عِرْقا أَبْيَضِه

والأَبْيَضُ: هو العِرْقُ".

والغرض من هذا الاستشهاد بهذا النص اللغوي الطويل من هذا المصدر الموثوق الإسهامُ في تعزيز ثقافتنا اللغوية العربية التي تتوافق تبرئتها للنِّساء من نسبة هذا المرض إليهن مع تبرئة خادم الحرمين الشريفين لهن انطلاقا من ضميره الحي الذي لا يقبل التهوينَ من شأنهن، ولا نسبةَ الشر إليهن، ولا استخدامَ مثل هذا المرض لتعزيز الثقافة الذكورية الانتقاصية لهن.

لقد أعادت إطلالةُ خادم الحرمين الشريفين إلى نفوس مواطنيه المتلهفين إلى رؤيته الاطمئنانَ وزادت من ابتهاجهم بالعيد السعيد، وعززت ما يعرفونه عنه من روح إنسانية عالية يتحلى بها ـ رعاه الله ـ تأبى الظلم وتنفر منه.

حفظ الله خادم الحرمين الشريفين، ومَنَّ عليه بالشفاء العاجل، وندعوه سبحانه أن يمتعنا بشفائه وأن يكلأه برعايته في كل حال، وأن يعود إلينا سالما معافى.