من الطبيعي أن يؤدي انفتاح ثقافة ما، كانت مغلقة لفترات طويلة، إلى حالة من الارتباك تشمل الجميع باعتبار أن الحالة الجديدة تحتاج للتعامل معها لأدوات جديدة تتناسب مع حالة الانفتاح، بينما لا يملك الغالبية من الناس سوى أدواتهم القديمة، التي هي أدوات التفكير في حالة الانغلاق. استخدام هذه الأدوات في الحالة الجديدة يُسبب ارتباكا باعتبار أنها لا تملك القدرة على التحليل والفهم لأن العصر غير العصر. فترة الارتباك تتضمن أيضا مرحلة البحث عن أدوات جديدة، أي عملية التكيـّف مع الحالة الجديدة، حالة الانفتاح النسبي مقارنة مع ماضي الانغلاق.

من علامات هذا الارتباك أن يسبق الموقفُ الفكري التفكيرَ. أي أن يُحدد الأفراد توجهاتهم الفكرية منذ البداية، أي أن يبدأ الفرد رحلته الفكرية بتحديد الانضمام لصف من الصفوف أو الحياد من كل الاتجاهات، قبل أن يخوض عملية التفكر والبحث والتساؤل. أي أن تكون البداية من سؤال: أنا مع مَن؟ قبل سؤال: من أنا؟ غالبا ما تكون هذه الحالة نتيجة وجود صراع فكري بين أطراف متعددة، حادّ أو غير معتاد. هذا الصراع يضغط على الأفراد خصوصا المبتدئين في التعرّف على الساحة الفكرية ليُعلنوا انضمامهم أو عدم انضمامهم، كخطوة أولى للدخول في الساحة الفكرية. أي إن حالة الصراع الفكري الحادّة أو الطارئة التي تغلب عليها الاصطفافات والتحزبات أكثر من التفكير والتحليل، تدفع المراقب المشدود لما يجري إلى أن يكون الصراع هو موضوعه بدلا من أن تكون ذاته هي الموضوع.

أي بدلا من أن تكون بداية الرحلة الفكرية من خلال التعرف على الذات وطرح الأسئلة المعرفية والفكرية والقراءة والبحث والانفتاح على كل الاتجاهات، أي حالة السذاجة الأولى الطبيعية أو حالة الطلب والدرس والتعلم، بدلا من كل هذا يبدأ كثير من الأفراد بتحديد موقفهم من الساحة الفكرية مع أو ضد أو حياد. وهذا يعني، فيما يعنيه، أن الفرد فقد ذاته الحرة وخياره الشخصي ووجوده الحقيقي بهذه الممارسة، لأنها حدّت من تفكيره وحريته في الاختيار والبحث. ففي ساحة فكرية، كساحتنا المحلية، لا تزال بكرا وأسئلتها لا منتهية، يُصبح سؤالُ عددٍ كبيرٍمن الأفراد الأول هو: أنا ليبرالي أو إسلامي أو خارج الطرفين بالضرورة. هذا السؤال يصبح هو الموضوع والقضية بدلا من القضية الأساسية نفسها. على سبيل المثال قضية من نوع المناهج الدراسية والجدل حولها. لدى كثير من الأفراد يصبح محرك تفكيرهم تجاه هذه القضية هو الصراع حولها وليست القضية نفسها. فبدلا من التفكير حول معنى المنهج وحالة الطالب ودور المدرسة وتغيـّرات العصر المتسارعة، يذهب التفكير إلى: هل أنا مع المُطالبين بالتغيير أو المعارضين لهم أو المتوسطين بينهم؟ وفي كل الحالات يشعر الفرد بالارتياح والطمأنينة، لكن الحقيقة أنه لم يفكر في القضية الأساسية ولم يفهمها فهما حرا مستقلا. أي إنه لم يُمارس دوره الشخصي في السؤال بقدر ما استطاعت حمّى الصراع جذبه إلى مساحة خارجية تزيد من اغترابه ووجوده الزائف.

عملية الاصطفاف الأولية تـُفقد الفكر سذاجته الأولى وانفتاحه المهم. تـُفقده نهم السؤال والبحث، تـُفقده دهشة التأمل والتعرف على الذات قبل أي شيء آخر. هذه العملية تشغل الفرد بالإجابة أكثر من السؤال. لذا نلاحظ أن لدينا ساحة تعجّ بالإجابات وتفتقد للأسئلة الحقيقية. كما أنها، أي حالة الاصطفاف، تُفقد الساحة الفكرية حراكها المثمر المنتج للمعرفة. الصراع الفكري وضعٌ طبيعي لأي مساحة فكرية يشترك فيها مجموعة من البشر. هذا الصراع هو روح الفكر وحياته ودليل حركته. ولكن الصراع الحقيقي هو الصراع القائم على الحرية. أي الصراع الذي هو نتيجة أفكار حرة مستقلة تحمل في داخلها طاقة الحياة والتأثير. هذه الأفكار لن يـُنتجها إلا فكر اعتاد على السؤال والتأمّل. فكر اشتغل بالبحث عن المعرفة والحقيقة قبل أن يشتغل بالاصطفاف في الصراع الأيديولوجي.

من ملامح فكر الاصطفاف، كثرة الأحكام وقلة الأسئلة. لدى هؤلاء الأفراد رغبة غريبة في تقييم الآخرين والحكم على مشاريع فكرية كبيرة، بكل سهولة وبجرأة، تدلّ على عدم الوعي أكثر من تحرّر الفكر. فكر الاصطفاف فكرٌ نزقٌ يضيق بالتفكير والتساؤل، فكرٌ محدود المسارات ويتحرك في مساحة ضيقة جدا، والمشكلة أن لديه وثوقية مفرطة ولكنها سريعة التحول. أي إنه يتعامل مع القضايا تعامل المـُشجّع أكثر من المفكر. ومن علامات المـُشجعين حدّتهم في تبني المواقف وسرعة تغييرها في ذات الوقت.

الموقف الفكري، برأيي، هو سمة للفكر الحقيقي، الفكر المتصل بالإنسان والحياة، هذا الموقف يكون حقيقيا حين يُنتجه فرد تعرّف على ذاته في البداية، وخاض طريق المعرفة والسؤال والانفتاح. فكر يجعل من الموقف العملي أو الأيديولوجي نتيجة معرفة وبحث وتأمل وسؤال وقلق بدلا من العكس. هذا الفكر مُهيأ لإنتاج مواقف حقيقية لها قيمة وأثر. من سمات أفراد هذا الفكر، في ساحتنا الثقافية، انعزالهم في البداية وانكبابهم على القراءة والبحث، وانفتاحهم على كل التيارات والاتجاهات، لا ينشغل هؤلاء بالإجابات بقدر انشغالهم بالأسئلة والحوار، هم في حالة من التوقـّف عن الأحكام والبعد عن الاصطفافات المبكرة. تجدهم في المكتبات أكثر من مواقع الإنترنت، وتلحظ لديهم براكين من الأسئلة في الداخل وهدوء في النقاش من الخارج. تلحظ عليهم هدوء المُتأملين فيما ينتشر في الفضاء نزق المشجعين والجماهير.