لا توجد فرحة تماثل فرحة الوالدين بخبر قبول ابنهما في برنامج الابتعاث، ولا يوجد أبهج من تلك اللحظات قبيل سفره حين يتقاسمون معه أمنياته وأحلامه، وتحتشد عندها مشاعرهم المختلطة بين فرحة اقترابه من مستقبل واعد على مسيرة بضع سنوات، وحزن فراقه، لأن عليه أن يعبر ذلك الطريق بمفرده، وبعيدا عنهم. ولا يوجد أشد وقعاً على قلوب الوالدين، مثل خبر موت أحد أبنائهم فجأة، فهل نتخيل حجم الفاجعة حين يصلهم أن سبب الوفاة "القتل"؟. ولا يوجد أقسى من ألم تجلد الأخ حين يستقبل جثمان أخيه، ويضطر إلى تغسيله وتكفينه على مرأى من أبيه، ولا يحطم كواهل الرجال إلا تلك اللحظة العصيبة، التي يضطر فيها الأب إلى إنزال ابنه إلى القبر، ليتلقفه أخوه، ويُرقده على جانبه، ثم يساوي فوقه التراب. ولا يمكن أن تعود حياة أسرة كما كانت بعد موت أحد أبنائها، ولا توجد كلمة عزاء أو مواساة يمكن أن تجبر كسر أم أو أب، بل أغلب ما يقومون به أيام العزاء التظاهر بأن الأمر على ما يرام. وفي الحقيقة لا يعلم ما يستعر في جوفهم إلا الله تعالى. ولا نستطيع كمجتمع أن نتظاهر بأن ظاهرة قتل المبتعثين السعوديين مجرد حوادث عارضة، ومجرد صدفة دون أن نتوقف عندها، ونعطيها حقها قليلاً، فالأرواح التي قضت كانوا أبناءنا، فمنهم من فُقد وخُطف وضُرب وقُتل في ظروف أغلبها كانت غامضة. فمنذ أن عُثر على جثة المبتعث "سلطان العمري" "متفحمة" عام 2012 في أستراليا وجرائم قتل المبتعثين في تزايد، بعد أن وجدوه في غابة قرب اوستن، بعد اختفائه بفترة، ورجحت الشرطة آنذاك أن الحريق الذي أشعل بجوار المبتعث كان متعمداً بهدف إخفاء معالم الجريمة، وهذا يعني أنها لم تكن صدفة أو مجرد حادثة عرضية. ولم ننس المقطع المؤلم الذي سبق مقتل المبتعثة ناهد المانع، التي غُدرت ب 16 طعنة في مدينة كولشيستر، في شهر يونيه من 2014 ، وظلت السلطات البريطانية تبحث عن قاتلها ببرود مميت، وكأنهم يبحثون عن إبرة في كومة قش، وهم الذين اشتهروا بوجود أكبر شبكة تحريات على مستوى العالم "سكوتلنديارد"، ومع ذلك قاموا بعمليات بحث وتحرّ لم تكن مقنعة أبداً. وبعد مقتل ناهد بأربعة أشهر تقريبا عثر على المبتعث رائد البقشي متوفى على سريره، والذي كان يدرس الهندسة الكهربائية منذ ثلاثة أعوام في ولاية ميتشغن الأميركية، وذلك بعد أن تغيب عن جامعته في مدينة بونتبلزنت لمدة يومين متتاليين، وادعت السلطات آنذاك بأنه لا توجد أي شبهة جنائية. وفي نفس الشهر "أكتوبر" عُثر على جثة المبتعث عبدالله القاضي الذي أعُلن عن اختفائه، في وقت سابق من شهر سبتمبر، والذي كان يدرس الهندسة الكهربائية أيضاً، بعد أن قتل بسكين أثناء محاولة القاتل سرقة سيارته، ولا أدري لماذا لا أستطيع أن أصدق بأن تخصص الهندسة الكهربائية بين المقتولين كان صدفة. وفي الشهر التالي "نوفمبر" من نفس العام 2014 لقي المبتعث علي حسن الهويدي مصرعه بعد أن تعرض لضرب وحشي انتهى بالطعن، على أيدي أشخاص مجهولين، أثناء عودته من زيارة أحد أصدقائه إلى مقر سكنه في مدينة تورونتو. وفي 2015 توفي المبتعث منصور اليامي متأثرا بجراحه بعد نقله إلى المستشفى، بعد أن أطلق عليه النار أثناء محاولته الفرار من لصين كانا يحاولان سرقته، وبعد قتل اليامي ببضعة أشهر تم العثور على المبتعث ريان إبراهيم مضرجاً بدمائه على الأرض بجوار سيارته، داخل مواقف سيارات تابعة لجامعة ويتشيتا، في ولاية كانساس الأميركية في جريمة لم أجد أثناء بحثي خبرا يؤكد القبض على مرتكبها بعد. وفي هذا العام 2016 ، وبالتحديد في نهاية الشهر الماضي، انتشر خبر مقتل المبتعث حسين النهدي، في ولاية ويسكونسن، بعد هجوم وحشي، تسبب له في نزيف من فمه وأنفه أفقده الوعي، لينقل بعدها إلى المستشفى ويتوفى هناك. ولم يتم القبض على قاتله إلى الآن. ولا يمكن أن تكون تلك الجرائم المعلنة وغير المعلنة صدفة. بل عنصرية وكراهية بغيضة. ولأن عدد المبتعثين في الولايات المتحدة فقط وصل إلى أكثر من 80 ألف طالب، موزعين على 51 ولاية، ربما تكون عملية متابعتهم وحمايتهم مهمة ليست سهلة. ولكنه تحدّ وواجب على القنصليات السعودية والملاحق الثقافية هناك، أن تقوم به، وبتلك الخطوة الإضافية، التي ينبغي أن تتخذ، لتأمين هذا العدد الضخم من الطلاب. كما أن الحماية تأتي بأكثر من وسيلة، منها رفع الوعي، والاستمرار بإرسال رسائل توعوية تذكيرية، لضمان وصولها إلى كل مبتعث، حول الممارسات المرفوضة التي تجذب الانتباه إليهم، والأماكن التي لا ينبغي عليهم زيارتها منفردين، كيلا ينتهي بهم الأمر في لحظة غدر. الاحتياط أصبح لزاماً الآن. ولم أجد أمرا مزعجا مثل تعليقات بعض المسؤولين هناك، التي كانت تقلل من فداحة تلك الجرائم وتعتبرها مجرد صدفة، مع أن أغلبها تم ارتكابه بتخطيط، مع سبق الإصرار والترصد!