أَجد صعوبة بالغة في تحديد محطات التحول التاريخي الفاصل بين ماضٍ تولى في حياة أمتنا من جهة وبين حاضر يحاصرها بخياراته العصية ومتاحاته المهدرة..
يحملني ذلك على الاندهاش تجاه سيل جارف من الإصدارات والندوات والمقالات والأصوات التي تتحدث عن آفاق المستقبل وفي أحايين عديدة ترتفع جرعات شجاعتها فتقتحم مجالاته وتضع صورته العفوية على جدران مراسمها العابثة..
هي أمة عظيمة وتستحق دوراً غير الذي قدر عليها الاحتباس في نطاقه، ومن البداهة أن تتبوأ مكانتها التاريخية الموازية لإمكاناتها البشرية ومصادر ثرواتها الطبيعية وحيوية موقعها على مستوى الجغرافيا.. فلماذا لا تمارس مثل هذا الاستحقاق؟
وما الذي يحول دون ريادتها؟ ولأي مانع تؤثر البقاء خارج مكانتها..؟
كثيرون حاولوا التصدي لأسئلة شائكة كهذه..اتفقوا على إدانة المؤامرة باعتبارها مبكى هزائم، وما لبث الاتفاق أن أصبح تبايناً عند تشخيص الحالة فيما كانت حركة التطور المحيطة تتطلب البحث عن منهج جديد يتجاوز الحكم المسبق واقتصار التضاد على اتجاهي التسويغ الذرائعي تارة والإدانة المنطلقة من اليأس طوراً.. لكن قلة من مفكري الأمة أمثال العقاد ومروة والبردوني وابن نبي والنيهوم والعلوي ومصطفى حجازي وآخرين على ذات الشاكلة أطالوا النظر في دراسة الواقع وأَثاروا الأسئلة الوجودية عن وضع الأمتين العربية والإسلامية وما تختزلانه من مقومات نهوض.
لم تكن القراءات التحليلية العميقة وحدها تستطيع مجابهة تعقيدات الواقع، إذ إن معضلاته أشد استعصاء مما يحلو للمتعجّلين تصوره أو بما يخطر على بال المنطق المتسم بالأناة والقدرية..
تراكمت تبعات التردد عن حسم المشكلات. فحين يحضر التشخيص الأكثر دقة تغيب الوصفة المناسبة.. ومتى توفرت جرعة العلاج برزت الحاجة الملحة لتهيئة الواقع على تقبل محاولات التغيير. تماماً كما تكون عليه نفسية مريض لا سبيل لمعالجة وضعه الصحي المعتل قبل تمريره على قبو مشعوذ.
هي أمة عظيمة فعلاً لكنها تقضي حياتها بمعزل عن حركة الزمن وتحولاته المعبرة عن إرادة الشعوب الحية التي تكافح في سبيل إبداع ذاتها ولا تقبل الاستسلام لمكر التاريخ. إنها تداهن المعضلات وتدخر الماضي وسيلة للإفلات من مسؤوليتها إزاء الحياة، وكلما أنشب الخطر سنانه في أنحائها جال في ذهنها طلل دارس من مآذن دلهي أو مدارج غرناطة وكأنها لا تريد من تاريخها المجيد وما يحفظه من فتوحات وقيم غير مستحضر من مومياء فرعونية وحقوق رواية حول ماض كانته..
ومن عجب أن ترى العقل العربي أكثر ميلاً لجلد الذات وإسقاط الرؤية النقدية القاسية على تخلف الأمة والإقرار بوهن مؤسساتها الإقليمية وإعلان عجزه عن مواجهة تحدي الإرادة قبل أن يصل الحال بها مرحلة استهداف يتهدد وجودها ويطوع قدراتها في خدمة احتياجاته وتبعاً لمصالحه واعتبارها حقلاً لتجاربه.
ولا بأس أن يكون الاعتراف بالحقيقة على مرارتها أولى الخطوات الموضوعية على طريق تصحيح المسار ومواجهة معضلات التشظي والوهن وأن يغدو الإحساس بالألم ضرورة ملحة تملي على قادة الأمة ومؤسساتها الرسمية والنخبوية المبادرة إلى حشد الطاقات وحسن توجيهها واجتراح أفضل السبل الممكنة لرص الصفوف وإعادة جدولة البرامج القطرية باتجاه خيارات بديلة توظف مقدرات الشعوب في سبيل الوصول بأمتنا العربية والإسلامية صوب المكانة التاريخية اللائقة بها.
ترى.. هل يغدو وخز الألم وشعور النظام العربي بعمق الجرح ضمن المعادلات المرشحة لصناعة المستقبل على نحو ما نصبو إليه أم إن المشكلة الرئيسة تظل عالقة في مكان آخر يتعذر الاقتراب منه واستكشاف كنهه والتنبؤ بمتاحاته..؟
إن قراءة متمعنة في تراثنا العربي والإسلامي وما استجد من مقاربات فكرية حديثة أو تداع خلال مراحل الاستعمار الحديث من تأثر عميق بالأيديولوجيا الوافدة وانبهار مستلب بمخرجات الثورة الصناعية، كل ذلك يدعونا للوقوف أمام تحدي الوجود الذي يحاصر الأمة ويحملنا على الإسراع في تحديد نقطة الانطلاق وعدم التهيب من إعادة الاعتبار للعقل أولاً، وترشيد الخطاب السياسي المأزوم ثانياً، والشروع في إنتاج شراكة معرفية تجيب على أكثر الأسئلة ارتباطاً بتحولات الأمم وأَجداها تعبيراً عن جوهر التحديات المصيرية في حياة الشعوب..
إن النظام العربي والإسلامي الذي يمارس القفز على الأولويات مطالب بمراجعة شاملة تسفر عن استخلاصات مرجعية تضبط البدايات وتضع بوصلتها عند نقطة الانقطاع بين الماضي والحاضر، إذ من غير ذلك ستضل الأجيال طريقها إلى الحقيقة ويلازمها التيه فلا تدري أين يبدأ المستقبل ولا أين تكمن تحدياته..؟ وكيف تكتشف آفاقه..؟
إن علاقتنا بالزمن ما تزال تعتمد الخلط وتنفر من المكاشفة الواعية، ولذلك يطول احتباس الأمة خلف قضبان الماضي..
وماذا بعد..
من سوء الحظ أن يأتي الحديث عن أكثر الفنارات حضوراً في الواقع على غير مشتهى الأمنيات الجامحة.. وأَن نستحضر المثل في تاريخنا المعاصر مع مظاهر قلق نبيل حول صحة الملك عبدالله بما هو محل الاستشهاد بإمكانية إرساء معالم فاصلة بين زمنين حافلين، إذ توج الرجل حقبته بمعالم يمكن اعتبارها عنواناً لحاضر مختلف على دروب الحوار الوطني، وواصل مساره بالرهان على تأسيس صرح أكاديمي عربي تحفه معايير علمية تتجاوز شروط ومعايير الواقع وبعض إفرازاته التقليدية، متلمساً الطريق نحو جهد صادق ومحاولات طيبة لرأب الصدع العربي وإزالة الوحشة التي رافقت مراحل الانقسام بين محور هنا وآخر على نقيضه، لهذا نلوذ بلطف الخالق وعنايته برجل بذل وسعه وما تزال الأمة في أوج حاجتها لنقائه الوطني والقومي والإسلامي.
شفى الله الملك عبدالله ورحم أمة تتقاذفها الأعاصير وما تألو.