يشير صاحب كتاب القوة الناعمة إلى: " أن جدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفزيون والأفلام السينمائية قبل زمن طويل من سقوطه في عام 1989 ؛ ذلك أن المطارق والجرافات ما كانت لتنتج لولا انتقال الصور المبثوثة من ثقافة الغرب الشعبية على مدى سنوات طوال فاخترق الجدار قبل أن يسقط". الإعلام هو واحد من أهم مصادر القوة الناعمة للدول، وحين لا يقدر على مسايرة العصر والمنافسة فإنه سيصير مجرد خسائر لا طائل من ورائها، فعندما يغرق الناس في هذا الكم الهائل من المعلومات فإنهم يجدون صعوبة في تحديد ما ينجذبون إليه ويصبح الانتباه هو الشيء النادر، وليست قوة وسائل الإعلام في مقدار ما تبثه من دعاية للجهات التي تعمل لمصلحتها بقدر ما هي في تأثيرها ومقدرتها على جذب الناس وإقناعهم، ففي هذا العصر تسعى الدول لتعزيز مصداقيتها وإضعاف مصداقية خصومها، ولأن الناس غالباً لديهم حساسية من الإعلام الرسمي؛ تلجأ بعض الحكومات إلى اصطناع العداوة مع إعلامها فتسمح له بنشر مواد ضدها، من أجل تعزيز مصداقيتها والإيهام بالموضوعية، فمن يملك إعلاماً محترفاً يمكنه أن يجعل من حادثة بسيطة أمراً خطيراً، كما يمكنه أن يسدل الستار على قضايا مهمة لا يلبث الناس أن ينسوها، لكن ذلك يعتمد على حجم الشريحة التي يمكن مخاطبتها والتأثير عليها، فقبل سنوات زار الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك قناة الجزيرة فوجد أن مبناها متواضع جداً، وأقل بكثير من ضجيجها، فأصيب بالصدمة وقال: "كل الضجة دي طالعة من علبة الكبريت دي"، وما هي إلا سنوات قليلة حتى أسُدِل الستار على حكمه الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود بفعل حريق أحدثه عود ثقاب خرج من تلك العلبة نفسها. من المؤسف أن الإعلام السعودي شبه الرسمي والخاص لم يتطور كثيراً في مجال العمل الدعائي والمنافسة، وظل موجهاً إلى الحكومة أكثر مما هو موجه إلى الناس والعالم، حتى فقد كثيراً من تأثيره وجذبه، وأسوأ من ذلك أن القائمين على إعلامنا لا زالوا يخاطبون العالم بلغتنا لا بلغتهم، معتقدين أن الآخرين تنقصهم المعلومات، وأنهم إذا عرفوا ما نعرفه فسيرون الأشياء بطريقتنا، غير مدركين أن هذه المعلومات يجب أن تمر عبر فلاتر ثقافية يفهمها الآخرون، لذا فمعظم رسائلنا لا تصل إلى العالم أو تصل مشوشة وغير مفهومة، ومع إدراكنا لهذه الحقيقة، إلا أننا حين نعجز عن الإقناع بعدالة قضايانا، أو نرى الآخرين يتبنون وجهات نظر معادية لنا، رفعنا شعار المؤامرة، وقلنا: إن العالم كله يتآمر علينا!. قبل سنة تقريباً، وبعد حادثة إعدام ال 47 إرهابياً في السعودية، حاول بعضهم تصوير الأحكام على أنها ذات طابع طائفي، لمجرد أن واحداً من الإرهابيين المؤثرين كان من الطائفة الشيعية الكريمة، وبدلاً من تركيز وسائل إعلامنا على الجرائم التي قام بها ذلك الإرهابي – وما أكثرها - وبعضها موثق بالصوت والصورة مثل التخريب وحوادث قتل العسكريين ورجال الأمن، حاول إعلامنا إقناع العالم بعدالة أحكامنا بالقول: إنها مستمدة من الكتاب والسنة!، أو إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أقرت بعدالتها!، وكذلك في أعقاب إقرار "قانون جاستا" قللت بعض وسائل إعلامنا بطريقة "أخذ حقه بدق خشوم" من تأثير هذا القانون وادعت أن ضرره على أميركا أكثر من السعودية. لا يمكن إنكار دور وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام وتحريك الجماهير، بما جعل من الانتباه إلى وسائل الإعلام الرسمية أمراً طارئاً، وهو ما يفترض أن يدعوها إلى رفع سقفها لتقدر على تعزيز مصداقيتها أمام الناس وتستعيد ثقتهم بها من أجل المنافسة، غير أن هذا التأثير كان محدوداً جداً، فلا زالت الفجوة بينهما كبيرة، وبدلاً من أن تلحق هي بالإعلام الجديد حاولت سحبه إلى الخلف والتأثير على حركته، فنجحت في إسكات السعوديين وحدهم، بينما أخلت الميدان لغيرهم من الأصوات المنفلتة والمشبوهة في الخارج لتكون هي المؤثر الوحيد في وسائل التواصل الاجتماعي، وبذلك يمكنها التأثير والجذب والمتابعة أكثر من غيرها، مع أن تلك الوسائل أصبحت مرتعاً للاستخبارات العالمية والجماعات المتطرفة من أجل التوجيه والتجنيد والاختراق وغسيل الأدمغة، وإذا لم يكن لدينا إعلام حقيقي مؤثر فسيكون أبناؤنا صيداً سهلاً للأعداء، كما أن سمعتنا في الخارج ستتراجع كثيراً على حساب غيرنا. لعلي لا أبالغ حين أقول: إن بعض وسائل إعلامنا يندر أن يتابعها أحد إلا في حال وجود قرارات أو أوامر، وكان الأجدر بها اقتناص هذه الأوقات النادرة في الدعاية لنفسها، غير أنها تأبى في كل مرة إلا أن تحرضهم على قطع الصلة بها قطعا حاسما، من خلال طريقتها التقليدية في عرض الأخبار، والحرص على تصعيب الخبر والاستغراق في تفاصيله دون مراعاة لعامل الوقت والبساطة، مع أن قيمة الخبر في انتشاره وفهمه!، حتى أني في القرارات الأخيرة تعاطفت مع أحد المذيعين في إحدى قنواتنا التلفزيونية حين احتاج لأن يقرأ ( 150 ) اسما من أسماء أعضاء مجلس الشورى، مع أنه كان يكفي أن تُذكر الأسماء المخرجة والمدخلة في التشكيل الجديد، ليستوعب الناس القرار بشكل أفضل؛ لكن البيروقراطية قاتلة.