السيرة فن من الفنون الأدبية التي لها مكانتها وقراؤها في الأدب العربي، وتكمن جماليات ومرونة هذا النوع الأدبي في كونه يجعل العمل الإبداعي قادرا على التحرك بحرية داخل النص. ويعتمد فن السيرة الروائية على المراوحة بين خطاب الروائي والراوي بحيث يتماهى معه لينتج أدبا من نوع خاص.
في رواية "الغياف" للروائي صالح بن عايض، والتي تتجاوز الخمسمائة صفحة سرد روائي في هيئة سيرة لكائن شغوف بالأسئلة الوجودية، والمعنى، والبحث في خفايا النفس ومتطلباتها "فماذا يعني الوجود إذن؟ هل هو ذاكرة لا تكل ولا تمل من الحفظ؟ هل هو أن أكون مجرد صورة في ذاكرة؟ هل هو سطر في كتاب؟ هل هو عتبة تنتظر من يرتقي عليها؟ هل هو حائط مبكى"؟ وهكذا تنبثق المعطيات الوجودية عبر الرواية في هيئة سؤال كبير يمتد من الغلاف إلى الغلاف يبدأ في سرد الليلة الأولى والثانية والثالثة وكأنما شهريار ينتظر صباحا يشرق في غير هذا العالم.
إن الكتابة الإبداعية في رواية الغياف هي إبداع غير محدود يتمثل في تجربة الراوي وإعادة تشكيل الاحتمالات وجوهر المعاني في وصف محايد يشكل أحد أهم فنون السيرة الروائية التي تقوم في نموذجها على سرد ذاتي تتقاطع معه تجربة الراوي ومراوحته بين المواربة والأسئلة في مواجهة الذات الإنسانية وما يخالجها من القيم والانتكاس والقوة، حيث تمثل حقيقة الإنسان من داخله.
تأتي الرواية كحاضن لغوي وسردي يأخذ القارئ إلى تحفز ذهني يستمر على امتداد الرواية، حيث الليالي المتوالية التي يمارس فيها الكاتب الغوص عميقا في وعيه، آخذا معه القارئ إلى تلك الرحلة الفكرية للحد الذي لا يعود القارئ يرى أنه يقرأ رواية خارج ذاته بل رواية تتحدث عنه.
"هل الألم همٌ لا يمكن شرحه للآخرين؟ هل هو همٌ فردي من نوع خاص لا يشعر به إلا من يقاسيه، ولن يشعر به سواه"؟. سيرة الجسد والخطيئة والأقدار المدبرة التي تسقط من الأيام ومن رزنامة الحياة دون أن نتمكن من مواجهتها بتساؤلاتنا عن لماذا تحدث؟ وما مبرر حدوثها؟ وهل نحن هنا في العالم المادي لنمرر على العذاب أم لنتجاوز الحقيقة ونكون أقل من الوقوف أمامها عارين تماما من الحكم وإدانة وجودنا بهذا التوجه يسير السرد الروائي منسابا بسلاسة حتى يصل إلى منعطف الخطيئة والخوف: "هل الخوف وليد الخطيئة؟ أم أن الخطأ فعل لجهل ينتج عنه ضرر، بينما الخطيئة هي التلذذ بتكرار الفعل الناتج عن الخطأ لتلبية رغبة دنيئة في النفس؟".
النص السرديّ في الغياف يطرح الجسد بوصفه هيكل الروح ومحرك النفس وملاذ الانكسارات، ويقتنص الأحداث ويحولها إلى كيان لغوي روائي يتجاوز منطقة البوح إلى ممارسة الكتابة كوعي مكمل للتقاطع، مع إدراكنا للعالم الموازي لحقيقة النفس البشرية في صورة بلاغية وجمالية أشبه بالبكاء عند حائط مبكى.
صدرت الرواية في هذا العام عن دار كنوز المعرفة. ومن جماليات هذا العمل أنه قدم للمشهد الثقافي على طريقة النبلاء الذين يعطون بلا مقابل ويؤثرون الأجمل على ما سواه. حيث توزع هذه الرواية مجانا ويقدم ريعها بالكامل لدعم مؤسسة رعاية الأيتام. ستجدون في "الغياف" الكثير من معنى أن كل ما حولنا فيه شيء منا، وهل بالفعل لديك أدنى فكرة عما يحدث في عالمك الداخلي.