عندما يستمر حال قطاع المرور على ما هو عليه، فإن الأمور حتما ستتطور لدرجة أن الناس في ليالي سمرهم سيحكون في سرد أقرب لتداعيات الأحلام ودهشة الأساطير عن (رجل مرور) رؤوه مصادفة (بلباسه الرسمي) في أحد شوارع أحيائهم!
إن المرء يعجب أشد العجب من غياب رجال المرور عن الساحات والميادين والشوارع المتأزمة بضجيجها واختناقاتها وحوادثها! ليتساءل بألم عند كل مأزق (مروري): "أين ذهب رجال المرور"؟!
و"أين يعملون"؟، و"هل جميعهم يعملون في الإدارات العامة للمرور أعمالا مكتبية فقط"؟!
دعوني أطرح لكم شاهدين حقيقيين متقاربين على ذلك المشهد المؤلم (كمثالين، فحسب): أما أولهما فهو (طريق الحرمين) بجدة، والذي هو الشريان الرئيس لحركة (المرور) للمتجهين لأحياء المدينة شمالا وجنوبا، وللمسافرين إلى المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، أو لبقية المركبات الهائلة التي تنقل أرتال البضائع في الاتجاهين معا! وبالتالي فان تلك الكثافة المرورية تتسبب في الكثير من حوادث السيارات أو تعطلها لأسباب متنوعة، مما يؤدي إلى (شل) حركة الطريق (تماما) للدرجة التي لا تستطيع أن تسير 10 كيلومترات (فقط) بأقل من ساعة حينا، أو ساعة ونصف وساعتين أحيانا أخرى.. ولكم أن تتخيلوا حجم المأساة عندما يتعلق الأمر بسيارة تحمل امرأة تلد، أو مريضا ينتفض من ارتفاع (سكر) الجسد المنهك، أو شيخا طاعنا يئن من تعب الزمن!
وأنا أؤكد بأنه على مدى 10 أعوام قضيتها ذهابا وعودة عبر ذلك الطريق (المأزوم)، أنني لم أشاهد أي دور لإخواننا من رجال المرور في معالجة الطوارئ المتكررة لذلك الطريق، بل إن وجودهم يقتصر على سيارة (وحيدة) تقف في الموقع نفسه الذي سبب ذلك الارتباك والاختناق.. (ليس قبل وليس بعد وليس خلال)، لأن سيارات العابرين عندما (تصل) إلى موقع الأزمة، فإن ذلك يعني انتهاء أزمة العابرين مع طريقهم البائس، فليس ثمة فائدة لسيارة المرور تلك سوى التأكيد على (نحن هنا.. وبس)! لكن الأثر الوحيد (يشهد الله)على طيف منظومة المرور في ذلك الطريق هو كاميرات (ساهر) المتناثرة في كل مكان لاصطياد المتهورين ومعهم (الغافلين) عن زيادة بسيطة في مؤشر السرعة أمامهم!
أما الشاهد الآخر فهو تلك الأحياء المنسية في الشمال الشرقي من المدينة العروس، وأعني بها أحياء الحمدانية، التي لها أكثر من 15 عاما والتي تشتمل على (ما يقارب) الاثني عشر حيا أو يزيد!
أما ما يجعل وجود رجال المرور بكثافة عالية أكثر إلحاحا في تلك الأحياء المتسعة، فهو كثرة التقاطعات في شوارع تلك الأحياء الرئيسة والفرعية، والتي تخلو من أعمدة الإشارات الضوئية المرورية تماما، مما يجعل تلك الشوارع تنهمك في فوضى عارمة على غرار (كل من إيده ايله)، وحوادث مستمرة، تزداد في أوقات الذروة (السابعة صباحا والواحدة ظهرا والسادسة بعد صلاة المغرب)، وقد أفضى الغياب (المرير) لرجال المرور إلى تزايد أعداد المتهورين من المراهقين وصغار السن الذين يفعلون ما يحلو لهم، وكأنهم في مضمار سيارات مدن الملاهي الصاخبة.. لكن الأثر الوحيد -كذلك- لأطياف المنظومة المرورية في تلك الأحياء، هو وجود سيارتي مرور تقفان عادة ليلا (عندما يستقر الناس في بيوتهم)، لتوزيع مخالفات مرورية (مجانية) لأخطاء (حزام الأمان -نسيان رخصة القيادة- تظليل المركبة...)، وهي ليست حتما كالأخطاء الكارثية التي لم تنته إلا في وقت متأخر من الليل (وهو الوقت الذي استيقظت فيه أطياف الحالة المرورية الممثلة في هاتين السيارتين)!
بصراحة.. بكل صراحة: أنه في الوقت الذي نرفع ما على رؤوسنا إجلالا وتقديرا لرجال الدفاع المدني، الذين يؤدون معظم ما ينتظر منهم عمله، بل ونجدهم يتحملون أخطاء وقصور المؤسسات الحكومية الخدمية الأخرى، ورجال الأمن في بلادنا الذين لم يألوا جهدا في تحجيم الأخطار التي تحيق بنا بفعل الإرهاب والسياسات الدولية الحاقدة، فإن مواطن هذه البلاد الكريمة يأمل أن تواكب المنظومة (المرورية) تلك الجهود القديرة في القطاع الأمني نفسه، وأن يدرك قادة الإدارات المرورية أن واجبهم لا يقتصر على جمع الغرامات وتحصيل المخالفات (بعد وقوع الفؤوس في الرؤوس)، بقدر ما العمل الجاد لحماية المواطن من مفاجآت الطرق وقصور الخدمات المرورية فيها، والعمل المخلص لدرء المواطن عن الوقوع في الأخطاء المرورية، قبل أن تدك رأسه المنهك الفؤوس من كل جهة.