يمكن تعريف البلطجة الإلكترونية (Cyber Bullying): على أنها استخدام وسائل الاتصال الإلكترونية للضغط على الشخص عن طريق إرسال رسائل متعددة فيها طابع التخويف أو التهديد أو السخرية أو التحقير أو الفضيحة. وإذا كان الاستقواء وممارسة التنمر والبلطجية مرفوضين في كل صورهما وممارساتهما، سواء بالفعل كما يفعل الطلبة في المدارس حينما يجتمعون لأذية زميل بعينه، أو باللفظ كما يفعل بعض الرؤساء أو الأزواج أو المعلمين مع غيرهم، أو حتى كتابة كما يفعل بعض العنصرية حينما يشوهون بالأصباغ البيوت أو دور العبادة، إلا أنها في الصورة الإلكترونية الحديثة تبدو أسوأ بكثير. وذلك لأنها غير محدودة بعدد معين من الأفراد، وليست محصورة ببقعة جغرافية يمكن للضحية الهرب منها أو تجنبها، ولأن هؤلاء المتنمرين مجهولون، لا يمكن الوصول إليهم بسهولة، وبالتالي رفع شكوى ضدهم بشكل واضح كما هي الحال خارج الواقع الإلكتروني. صحيح لدينا حتى هنا في المملكة قوانين خاصة بالجرائم المعلوماتية، لكن صدقا من يستطيع الإبلاغ عن كل حساب في تويتر وفيسبوك وإنستجرام وواتساب؟!
ما زال الجميع يثني على وسائل التواصل الاجتماعي التي غدت إعلام المواطن، فهي لا تنافق ولا تجامل، وليست لديها المحاذير والمخاوف التي تقيد الإعلام الرسمي، سواء الحكومي منه أو الخاضع لمؤسسات أهلية. وبالتالي تمكنت هذه الوسائل من كشف الكثير من الحقائق، وفضح الجرائم، وإيصال من لا صوت لهم، وكانت أحد أسباب محاربة الفساد ومعالجة المشكلات. فميزتها أن أي شخص، في أي مكان، يستطيع قول أي شيء دون قيود أو انتظار رحمة مقص الرقيب، لكن هذه الميزة هي في الوقت نفسه نقمة، لأنه لا توجد طريقة للتثبت من صحة الأخبار، أو منع تدفقها، أو معرفة من يقف خلفها بسهولة. وأي دولة أو منظمة أو شركة أو شخص يمكن أن يقع ضحية لهذه الشبكات، ولهذا الهجوم المنظم الشرس دون سابق إنذار، ودون سبب منطقي أحيانا، وإنما تكفي إشاعة ما تنشرها بضعة حسابات لتشتعل التعليقات والتغريدات وتنهمر بلا توقف.
وإذا كانت الدول والشركات والمؤسسات قادرة على إصدار البيانات الإعلامية للدفاع أو النفي، فلديها مكاتب للعلاقات العامة ومستشارون قانونيون يخبرونها بماذا عليها أن تفعل، ويهددون أو يقاضون من يسيء فعلا، فإن الأمر مختلف كليا حينما يتعلق بالأشخاص. فباستثناء الشخصيات العامة أو ذات الصفات الاعتبارية، والتي تستطيع إلى حد ما تكليف من يدافع عنها، فإن الشخص العادي يقف مدهوشا عاجزا متألما أمام طوفان الإساءة والكراهية.
ومجتمعنا السعودي ليس بدعا عن المجتمعات الأخرى، بل نجد أنه قد وجد ضالته للتعبير عن رأيه في شبكات التواصل الاجتماعي، وبالأخص تويتر، وأصبح الكثيرون يمارسون الحرية بذلك الشكل اللا منضبط، حيث كل ما يُعرف ولا يُعرف يقال، إما باسم صريح أو (وهو الأغلب) بالتستر خلف اسم مستعار، بل باتت هذه الممارسة البلطجية من المسلمات المتقبلة، والتي يجدها البعض طريفة! فهم أقنعوا عقلهم الباطن بأنها ليست ممارسات مسيئة وليس فيها بلطجة ولا عنصرية، بل هي "طقطقة" أو "تفجير الجبهات" عبر "الهشتقة"، بحيث يختلط الجد بالهزل، ويتسلى البعض في حين تكون سمعة وكرامة ومستقبل ورزق ومشاعر إنسان ما وعائلته على المحك. وهي أمور قد تتطور في المستقبل، وهو ما حصل في مجتمعات غربية عديدة، بحيث تدفع الإنسان للانتحار للتخلص من العار. من الأمثلة التي شاهدناها مؤخرا، ما تعرض له الشاعر الشاب حيدر العبدالله، بسبب القصيدة التي ألقاها أمام خادم الحرمين الشريفين، بمناسبة زيارته المنطقة الشرقية. فبغض النظر عن رأينا في القصيدة أو في طريقة إلقائها، فإن الشاعر لم يرتكب جريمة يستحق عليها كل تلك السخرية وكل ذلك الهجوم. والأمر نفسه يتكرر مع عدة أشخاص تعرضوا لأذى نفسي شديد بسبب البلطجة الإلكترونية ونظرية "إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه" وعقلية القطيع. ولا أقصد هنا الأشخاص الذين يقومون متقصدين بتصريحات أو خطب مسيئة يعرفون بأنها سوف تستفز الرأي العام، وبعضها يستوجب مساءلة قانونية، وإنما زلات اللسان أو سوء الفهم الذي يمكن أن يتسبب في تجريد شخص من دينه أو سمعته الأخلاقية أو وطنيته وانتمائه. ولا يُترك المجال للضحية لإيضاح وجهة نظرها، فالقطيع غير معني بها أصلا، فهو قد أصدر الحكم سلفا، ويقوم حاليا بتنفيذ الحكم.
فأبسط مقال وأقصر تغريدة يمكن تحويرها بحيث تصب في المعنى المعاكس تماما لما كُتبت لأجله، وعبثا تحاول محاورة من تتوسم أنهم راغبون في الفهم، وقد يستمر الهجوم أياما أو أسابيع، والحل الوحيد لإيقاف هذه الحملات الإجرامية هو تجاهل هذه الحسابات التي تبدو أحيانا وكأنها لشخص واحد، أو كأنها موجهة من جهة ما، والقيام بحظر أصحابها، وشيئا فشيئا يخمد الموضوع ومن ثم يقفل.
نوع آخر أسوأ من هذه الحملات يتورط فيه ليس العوام وأصحاب المعرفات الوهمية، إنما المثقفون والكتاب والصحفيون وأرباب الفكر والقلم، ممن اختاروا الاستقطاب لأقصى اليمين أو اليسار، أو متزلفون يبحثون عن تحقيق منفعة ذاتية على حساب تشويه سمعة الآخرين. هؤلاء يحاولون استعداء الدولة ضد شخص ما عن طريقة قراءة خاطئة متعمدة لكتاباته الصحفية أو تغريداته الشخصية. فمثلاً لو كتبت تشكو حال المسجد الأقصى، أو ذكرت قصة عن عدل عمر أو شجاعة عليّ -رضوان الله عليهما- لحولوها بقدرة قادر إلى انتقاد للدولة، وطعن في قادتها، ومحاولة للثورة والفتنة! ويتهم المغرد بأنه يستخدم أدبيات "القاعدة" و"داعش"! على هذا القياس الفاسد، فإنه علينا أن نهجر القرآن لأن مجرمي داعش يستشهدون به، وننزع الحجاب لأنهم يفرضونه، ونلغي آيات الجهاد لأنهم يتترسون بها!
التقنية أعطتنا الكثير، ولا يمكن تصور حياتنا بدونها، لكنها في الوقت نفسه وضعتنا أمام تحديات دينية وأخلاقية واجتماعية وقانونية كبرى، وما زال العالم منذ 20 سنة أو أكثر وهو يحاول أن يوائم بين إرث إنساني عمره آلاف السنين وبين الوافد الجديد، فيصيب مرة ويخفق مرات.
البلطجة الإلكترونية أو التنمر عبر الشبكة هو حقيقة واقعية لا بد من التعامل معها بحزم ووضوح، بحيث يسمح بحرية التعبير ولا يضيق عليها، وفي الوقت نفسه يحمي الضرورات الخمس التي جاءت التشريعات السماوية بحمايتها، ومعها العرض والكرامة، فالخطوط الحمراء لا يجب أن يتم تجاوزها تحت أية ذريعة.