يبدو أن المجتمع السعودي يمر بهزيمة نفسية واجتماعية لا يدرك خطرها حتى الآن ولا تمكنها منه ومن تفاصيل الأيام والأشخاص فيه. ويتضح هذا من خلال النظر لنموذجين لحدثين اجتماعيين حصلا خلال الأيام الماضية بوقت متقارب وتباينت فيه ردات الفعل بشكل ملفت. الحدث الأول: ما قوبلت به قصيدة الشاعر الشاب حيدر العبدالله التي ألقاها أمام الملك سلمان بن عبدالعزيز في حفل أهالي المنطقة الشرقية من موجه استهزاء وسخرية بصور غير متوقعة ومبالغ في تناولها بمختلف الطرق حتى تجاوزت الحدود والآفاق. بعيدا عن البناء الفني للقصيدة وقوتها من ضعفها أو خذلان أسلوب إلقاء الشاعر للمقام الذي كان فيه أو مناسبته له، بعيدا عن هذا كله، فالبندول الذي خلقته هذه القصيدة كان سلبيا، ونستطيع معه أن نكشف اندفاع المجتمع السعودي نحو سلوك عدائي تجاه سبب وشخص لا يستدعيان كل ما حدث، ولا مبرر منطقي مثلا لتداول كلمة "سكنانا" كما نشرت "الوطن" خلال 6 أيام 32 مليون تغريدة، غير ما يتم تداوله في وسائط أخرى للتواصل الاجتماعي أو بين أفراد المجتمع في حياتهم اليومية إلا أن هناك إما حالة هروب من الواقع باستخدام السخرية أو أن السلوك العدائي "السيكوباتي" أصبح شائعا بينهم كنمط حياة.  الحدث الثاني: مقطع متداول لأحد الأشخاص يصنف نفسه داعية إسلاميا وهو يعتلي منبر أحد المساجد ويقذف من عليه علنا طالبات الطب والتمريض والمبتعثات وأهاليهم، ويسيء إلى العاملين في القطاع الصحي وللمجتمع بألفاظ وصفات خادشة وخارجة عن الحياء. وحينما تمت إعادة تداول هذا المقطع القديم وإنكار الشؤون الإسلامية لمسؤوليتها عنه ووصفها له بأنه من مقتحمي المنابر، وأنه يعمل معلما، متسائلة عن دور وزارة التعليم في التصدي له ولمنهجه الفكري والتكفيري، نجده يخرج مجددا ليبرر ما قاله من تلك الإساءات ويجد لها مخارجها الشرعية من وجهة نظره ويرفض الاعتذار، رغم سوابقه في التكفير في خطب الجمعة، وأشهرها تكفيره للفنان ناصر القصبي، وصدور حكم شرعي بحقه بسبب هذا التطاول. إصرار الخطيب المتجاوز هنا على ما قاله وقناعته العدائية تجاه المجتمع وتجاه المرأة خاصة، يعد أيضا نوعا من السيكوباتية، والملحوظ أنه لا المجتمع ولا الجهات المسؤولة تفاعلا مع تلك الإساءة بالإنكار والشجب والإدانة بذات الزخم والكثرة التي قابلوا بها قصيدة حيدر العبدالله المسالمة والمغزولة في حب الوطن. بل إن الهجوم طال إحدى الصحف المحلية لنشرها كاريكتيرا ساخرا يصف السوء الذي يحدث على المنابر من مثل هذا الشخص ويتلقاه البسطاء باستلاب وتقبل ورضا، دون أن يتوقف المهاجمون عندما قذف به شريحة كبيرة من المجتمع أو حتى ينكروا عليه أقواله أو يطالبوا بإيقافه عند حده بقوة القانون والشرع.

يصف علماء النفس الشخصية السيكوباتية بأنها تبدي أحيانا سلوكا عاديا وسويا في مظهرها، ولكنها في الواقع غير ناضجة انفعاليا وعاطفيا، لا تتعلم من خبرات الحياة وتجاربها، وغالبا ما تكون عدائية، متى ما أُتيحت لها الفرصة لذلك، ومتكيفة مع الحياة. والسيكوباتي قد يكون مبدعا، ذكيا في تحقيق مصالحه، ولكنه يقوم بسلوك ضد المجتمع ويجد له تبريره ولا يبدي عليه أي ندم. وهناك نمط آخر من السايكوباتيين العدائيين الذين يفشلون غالبا في إقامة علاقات متوازنة مع الناس ويلجؤون للكذب والمداهنة والتجسس في تعاملهم مع الآخرين، واقتناص فرص الإيذاء والإضرار والسخرية، وهناك السيكوباتيون العدوانيون الذين لا يرتكبون سلوكا عدوانيا فعليا ضد المجتمع، خاصة الأطفال والنساء منهم، ويتسمون بالقسوة والغلظة في التعامل مع الآخرين وعدم الندم على مظاهر عدوانيتهم الفعلية والقولية التي يرتكبونها تحت إلحاح رغبة قوية وغالبا دون تدبير مسبق.

بين عاصفة "سكنانا" التي عصفت ضد قصيدة حيدر العبدالله، وموجة السخرية القاسية والعدائية التي حدثت على مدى عدة أيام، وبين خطيب الجمعة المتطاول على الأعراض والمجتمع، وإصراره على أخطائه وتباهيه بها، وانسياق جموع من قطيع المؤيدين لتفكيره ومنهجه، يقع مجتمعنا السعودي بين عشرات النماذج التي نشاهدها أو نقرؤها ونسمع بها يوما بعد يوم ممن لا تخلو إمكانية إسقاط الأنماط السيكوباتية عليهم، وتخرج لنا يوما بعد آخر عدة نكات ساخرة يهزأ فيها المجتمع من نفسه، دون أدنى شعور بالذنب أو الإنكار للحال التي وصل إليها من جلد الذات، واقتناص الفرص للهجوم العدائي على بعضه أو الانهزام المخجل أمام سلوك البعض الآخر.

السيكوباتية كأي سلوك إنساني هي نتيجة لاستعداد وراثي ودوافع نفسية وإعداد بيئي، وفي السببين الأخيرين يكون المجتمع هو المدان والمبتلى بمثل هذه الأنماط، وهو من يعول عليه في التعامل معهم وتصحيح سلوكهم قدر الإمكان، أو على الأقل تدارك ما يمكن تداركه مع الجيل الناشئ بدراسات علمية وافية تضع اليد على المسببات التربوية والأيديولوجية والاقتصادية، وغيرها، التي تدفع بالأفراد لمثل هذه التصرفات العدائية والعدوانية والانهزامية، وتعمل على علاجها بتضافر الجهود بين المؤسسات التربوية والاجتماعية والدينية.