(وألقت عصاها واستقر بها النوى.. كما قر عينا بالإياب المسافر). تلك أيام قضاها عدد من المثقفين في ضيافة وزارتهم. كان من الطبيعي أن يعيشوها جميعا بمتعة فائقة، يتلذذون بكل ما فيها، فهم معتادون على أجواء حياة المدينة، وتسعدهم عيشة الطبقة المخملية ورفاهية (الخمس نجوم). وبذلك لن يتغير عليهم شيء. ومن الطبيعي أنهم كانوا يتمنون امتداد فترة الضيافة. لكن أولئك القادمين من بين ذرات الطين.. من تحت شمس ما يكن بينها وبين وجوههم حجاب، حتى اكتسبوا لونها واعتادوا أن يسابقوها نحو الأرض.. هؤلاء لم يرق لهم الانتقال من جوار الشجر والحجر والشمس والقمر ومراقبة تعاقب الليل والنهار، وتكاثر مواشيهم، وتتبع نمو نبات أرضهم، لمراقبة انعكاس الأضواء على المسطحات الزجاجية، والبقاء تحت الإقامة الجبرية في حجرات غائبة عن الهواء والشمس، والمثول أمام مكبرات الصوت، والإصغاء البحوث والأوراق الجافة..
ظهر لنا اثنان من الأدباء قضيا اليوم الأول بعد حضور مؤتمر الأدباء بجوار أرضيهما مبديين الاحتفاء بلقاء الأرض، وتظهر صورهما في مواقع التواصل السعادة بالعودة إلى الغناء والمطر.. فرحتهما تعبر عن رفض القيود التي أدخلناها على أنفسنا وعلى تصرفاتنا، وارتضيناها حتى فقدنا ذواتنا، وسرنا بعيدا عن سمات الثقافة.. الحقيقة أننا أصبحنا نرتدي أقنعة أنهكتنا وأفقدتنا ملامحنا الأصلية، واستبدلناها بأخرى مزورة..
الانسياق خلف التغيرات التي تتطلبها الأجواء الاجتماعية والثقافية على وجه التحديد تفقدنا الشعور بالمتعة الحقيقية، والتي تتمثل في الحضور والمشاركة. فالتكلف ممقوت وممل..
لكل إنسان ثقافة ذاتية معين، وانتماء إلى أرضه ولهجته، لذلك عليه أن يحملها معه، أن يسير ويتباهى بها، ولا يراها نقصا أو عيبا يتوجب عليه إخفاؤه عن الأسماء الأخرى، ليظهر لهم حضاريته ومواكبته لموجة التغيير.
حين نكون كلنا مستنسخين من بعض، متشابهين في اللهجة والشكل وما إلى ذلك من أوجه التشابه، فإن الهوية الحقيقية للمثقف تذوب وتختفي، ونصبح جميعا مجرد روبوتات تتحرك بذات الطريقة جميعا.. الشعراء هم رسل الناس إلى الأرض، لذا فهم أكثرهم انتماء إليها واقترابا منها حتى درجة الاندماج، وهم الكارهون للانتقال من مهبط إلهامهم ومغادرته نحو فضاء خال من الدهشة والحس، فكانوا من المتعجلين، وأول الأوابين إلى قراهم بعد حضور مؤتمر الأدباء.