على المسلم أن يحضر كل يوم جمعة ليستمع إلى الخطبة، وهو عيد أسبوعيّ، يغتسل فيه المسلم، ويتطيب، ويضع أفضل ثيابه، ليشهد ذكر الله تعالى، محتفيًا بذلك، حريصًا عليه غاية الحرص. وهي الصلاة الوحيدة التي نهى الله عن البيع بعد أذانها تعظيما لشأنها، فقال جل ذكره: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.

كان خطيب المسلمين هو النبي، صلى الله عليه وسلم، وناهيك بسيد الخلق، وأفصح من نطق بالضاد، والذي أوتي جوامع الكلم، فلم تكن خطبه طويلة ينسي آخرها أولها، بل كانت وجيزة مركّزة، وقد ورد عنه أنه قال: "تقصير الرجل خطبته، وتطويله صلاتَه مئنة من فقهه". وكانت خطبه -صلى الله عليه وسلم- تذكيرا بالله والدار الآخرة، وتبليغا لما في كتاب الله تعالى، ولعل خطبة الوداع الواردة عنه -صلى الله عليه وسلم- تصلح نموذجا خالدا من نماذج خطبه، والتي أمر فيها بحفظ المسلمين دماءهم، وحث فيها على اتحادهم، وعلى ألا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وأوصى بالنساء خيرا، وخطبة الوداع الواردة كلها لا تكاد تجاوز الصفحة الواحدة؛ فلم تكن طويلة مملة، ولا قصيرة مخلّة.

لم يكن في كل بلدة إلا مسجد جامع واحد فقط، يفد إليه الناس ممن وجبت عليه الجمعة، وتوافرت فيه شروطها، وهي مبسوطة في كتب الفقه فلا أطيل المقام بذكرها، وكان الخطيب في الغالب هو وليّ أمر المسلمين، أو الوالي نائبا عنه.

ثم كثر الناس، واتسعت البلاد، وأضحى بقاء جامع واحد في كل مصر أمرا شاقا، فانتشرت بهذا الجوامع، وأضحى لكل محلة جامع وخطيب، وتكلم الفقهاء في هذا الوضع، وأصّلوا له، ولهذا لم يعد من يخطب هو سلطان المسلمين أو الوالي، بل من ينوب عن السلطان.

وقد عرف تاريخ المسلمين خطباء كبارا، ووعاظا بلغاء منقطعي النظير، فلا يمكن أن ننسى الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ولئن كان كثير من الخطب الواردة عنه من الموضوعات والمكذوبات؛ فقد بقي منها بعض الخطب مما ذكره العلماء، مما ينضح بلاغة وتأثيرا حقا، ومن الخطباء البلغاء المنذر بن سعيد البلوطي في الأندلس، وابن الجوزي الحنبلي في العراق، وبقيت نماذج من خطبهم، جمعوا فيها جمال الأسلوب وتأثيره، وعمق المعنى وبلاغته.

وهذه كلمات أوجّهها إلى إخواني من خطباء الجمعة، من باب التواصي بالحق. ولئن لم يكن مثلي أهلًا لتوجيه النصح؛ فلا أقل من أن أكون كالهدهد إذ قال لسليمان، عليه السلام {أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ}.

فيا أخي الشيخ الفاضل خطيب الجمعة، إني أعلم ما تعانيه -أو ربما ما لا تعانيه- من التزام الوقوف على المنبر كل أسبوع لوعظ الناس وتذكيرهم؛ فلقد كنت يوما ما خطيبا مثلك، وكان تحضير الخطبة وما يقال للناس همًّا من الهموم، وقد ارتكبت في خطابتي أخطاء لو بقيتُ خطيبًا لما كررتُها؛ إذ كنت أظن جميع الناس مشغولين بما أنا به مشغول من آراء الفقهاء الخلافية، ومن الجدل مع المخالفين من فلان وعلّان.

يا أخي خطيب الجمعة، إنما وضعت المنابرُ لذكر الله تعالى، والدار الآخرة، والحث على المعروف، والنهي عن المنكر، ولم توضع المنابر أبواقا للآراء السياسية، ولا لنزاع التيارات الحزبية، ولا لترويج اللا معقول، أو الدعايات السياسية. إنما يأتي الناس يوم جمعتهم لسماع ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، فاحرص على ما أجمع المسلمون عليه، واترك ما اختلفوا فيه، وكلمهم بما يعقلون ويفهمون، واشعر بمعاناتهم، وعش واقعهم وظروفهم، ولا تقس على عباد الله، فإنهم لا يعيشون واقعا مثاليًّا.

أخي خطيب الجمعة، لا تجعل المنبر وسيلة لترويج آرائك الشخصية، ووجهة نظرك من الزاوية التي تنظر منها، وعليك بكليّات الشريعة وقواعدها المتفق عليها، والتي لا يختلف فيها اثنان، ودع عنك خلافات الفقه، فقد اختلف العلماء الكبار منذ قرون، ولا يزالون مختلفين، وليست خطبتك بالتي ترفع الخلاف بين المسلمين، وهو أمر موكول إلى الفقيه وإلى فتواه الشرعية، وإذا كانت الخطبة ذكرا لله تعالى، فآراء البشر واستنتاجاتهم ليست من ذلك، بل هي أقوالهم وفهومهم هم.

أخي خطيب الجمعة، إن للوقوف على المنبر سلطة معنويّة، فلا تستغلّه لتصفية حساباتك مع فلان وعلّان، خمس دقائق لِلَمْز فلان، وخمس أخرى للمز علان، وخمس لذاك، ورابعة لذلك.

أخي خطيب الجمعة، الله الله في الحديث عن الأخلاق الكريمة، عن الحلم، والصفح، والكرم، والعدل، والنجدة، والوفاء، وإكرام الضيف، والتواضع، والزهد، والأمانة، والرحمة، والرفق بالضعيف، وبر الوالدين، ولك في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسير السلف الصالح، وأقوال الصحابة والتابعين خير مصدر تأتي فيه من الأخبار والتأصيل بما يخدم مرادك، وابتعد عمّا لا يطيقه الناس في هذه الأيام، لا سيما مبالغات السير كختم فلان القرآن كل ليلة، وصلاة فلان قيام الليل ثلاثمئة ركعة، وما شابه هذا مما لا يمكن تصوّره ولا تصديقه.

أخي خطيب الجمعة، عليك بما يجمع ولا يفرّق، وانْوِ صلاحك قبل صلاح الناس، واعلم أنك لست خيرا ممن تخطب فيهم، ولا أنت بأهل لتحكم عليهم، واعلم أن رحمة الله تعالى واسعة، وفضله عظيم، وكرمه لا حدّ له، فحبب إلى الناس الطاعة، وكره إليهم المعصية، وازرع فيهم الفأل، فمن قال "هلك المسلمون" فهو أهلكهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولك.