عندما تقود سيارتك إلى وجهة معينة وتتفاجأ بأبنائك راكبي السيارة وهم يختلفون على من يتحكم بالمسجل، فإنك تغض الطرف لتواصل رحلتك، ولكن عندما يعلو الصراخ تتفاجأ بأنك مضطر لإيقاف السيارة لأجل سبب تافه يضطرك إلى وضع قانون لمثل هذه الحالة كي لا تتكرر الخصومة أثناء قيادتك لهذه السيارة، طبعاً الأم عاجزة عن المساعدة، فالأولاد قد كبروا، ولم يعد يخيفهم صراخ أمهم، والأب أهمل تربية أبنائه على روح الديمقراطية وقبول التعددية، لتداول التحكم في مسجل السيارة بشكل سلمي، ولهذا قد تجد السيارة من أفخم الماركات، ولكن ركابها في إشكالات تافهة لا تنتهي حتى تبدأ، وقائد السيارة يتوقف كل فترة لحل إشكالاته، وإذا تأملت السيارة من الداخل تكتشف مدى تخلف الركاب لتجد آثار العصير حتى على سقف السيارة، وآثار المعارك اليدوية التي لا تنتهي، بخلاف سيارة من ماركة عادية، لكن ركابها يستمتعون بالرحلة ضمن جدول محدد وهدف معروف ومهام موكولة للكل، حيث إن الجميع من أصغر راكب حتى أكبرهم يشعر بأهميته وموقعه من المشاركة والخدمة والفاعلية ضمن فريق واحد من الركاب.

الاستعمار قد يأتي بشكل مباشر، وقد يأتي بشكل كمبرادوري مافيوزي، والخوف ليس من مشاركة العالم في نهضته وتطوره، فالياباني لم يصبح غربياً لأنه يلبس ربطة العنق عند ذهابه إلى عمله، وثقافته الوثنية أعمق من أن يهزها تغيير اللباس الخاص بعمله اليومي للرجل والمرأة، والمؤلم أن تجد من يرى هويته الدينية يربكها أمثال هذه الأمور الهامشية، متجاهلين النظر الحقيقي إلى قضاياهم الكبرى، المضحك أن ركاب السيارة الفاخرة رغم كثرة خلافاتهم التي تستدعي وقوف قائد السيارة لحلها كل فترة، يفجعك عدم معرفتهم إلى أين تسير السيارة بهم أصلاً، فلم يشغلهم هذا السؤال المصيري في يوم من الأيام، كأنما هم عمي عن هذا السؤال الخطير، وكأنما ولدوا ركاباً ليس لمسيرتهم موقف ختامي ولا نهاية حتمية، تتمنى لهم لو ترجلوا من السيارة ليتعلموا المشي من جديد كاستقلال فردي يحتاجه الإنسان الطبيعي ليؤكد كينونته ولو على حساب رفاهية الوهم في مقعد الركاب، أحاله الزمن إلى ما يشبه مقعد ذوي الاحتياجات الخاصة، وما أكثر العاجزين حتى عن تخيل أنفسهم يمشون، عدا أن يتخيلوا الركض في سباق الحضارة الذي لا ينتظر العاجزين، فيا لبؤس من قال شاعرهم القديم إن لهم الصدر دون العالمين أو القبر، وقد عاشوا القبر وهم أحياء ليكونوا شهودا حقيقيين على نتائج الهياط (كلمة عربية بمعنى الصياح والجلبة)، ومن نتائجه غفلتهم عن حقيقتهم الوجودية في شراكة الإنسانية على هذا الكوكب، شراكة الند للند، ولكن كيف ذلك، ورصيدهم عجز القلوب وهياط الألسن.

يروي أحد المفكرين أن العربي لو تم تخييره بين أن يصعد إلى القمر فعلاً ليلمس ترابه ويمشي على سطحه، ويشاهد السماء والنجوم والأرض من عليه، مقابل ألا يعلم بهذا أحد، وبين أن تأتي وسائل الإعلام وتخبر الناس كذباً بأنه صعد إلى القمر مع ضمان تصديق الناس لهذه الدعاية المزيفة، لاختار العربي الثانية على الأولى، أي أنه سيختار السمعة الزائفة، على الحقيقة واليقين، رحم الله صاحب هذه الحكاية في توصيفه للعرب بأنهم ظاهرة صوتية، وقد تناسى أن سبب ذلك غلبة الغريزة الجماعية على التفكير الفردي، فالنزعة الفردية لديهم مقتولة بروح الجماعة التي تسحق استقلال الفرد عن جماعته، وتعامله تماماً بغرائز القطيع في النفي والإبعاد، لا بنظام الحضارة الراقية في رعاية المبدعين من أفرادها، والإبداع لم يكن يوماً حالة جماعية، حتى السيمفونية في أوركسترا عظيمة يعجبك كثرة آلاتها ويغرك كثرة وتنوع عازفيها لا تنسى أنها صدرت عن عقل رجل واحد يدعى باخ أو موزارت، ولو خيرنا أنشتاين بين نظريته النسبية وبين حكم إسرائيل بسبب يهوديته لاختار نظريته النسبية على حكم دولة الاستيطان، وهذا هو مجد العلم لمن لا يعرف في الحكم سوى رعي القطيع بالماء والكلأ، لا سياسة الدولة الراقية المليئة بالأحرار النجباء.