بعد ظهور وسائل التواصل الحديثة أصبحت الأزمة القيمية تظهر بشكل أكثر جلاء، حيث لا يمكن التعامل معها بمثل السنوات التي لم تكن من قبل حيث جلاؤها مباشر، وينم عن لحظة التلقي الأخلاقية لأي حدث ثقافي أو اجتماعي، وهذا التلقي الأخلاقي - إذا صح الوصف - يكشف بشكل أوضح من غيره مدى الإشكالية الأخلاقية التي تختبئ وراء الأقنعة في الحياة اليومية العامة، لكنها تنزع أقنعتها في وسائل التواصل بشكل مزعج أحيانا بمسميات عديدة، لعل منها لفظة "الطقطقة" التي يعتبرها البعض فرصة للنيل من الأشخاص.

  والطقطقة تتعدى الفكاهة إلى الهزء الشخصي بالناس والبحث عن مثالبهم الشخصية وإبرازها والتعامل معهم بدونية واللامبالاة الأخلاقية لمدى العنف اللفظي والرمزي الناتج من خلف هذا السلوك حتى أصبحت قيمة أخلاقية جديدة لا تنم إلا عن مشكلة أخلاقية تتمثل في عدم احترام الآخرين أو احترام اختلافهم أو احترام سلوكياتهم التي بالتأكيد أنها خاصة بهم، ولا تتعدى إلى غيرهم، لكن الطقطقة هي أقرب إلى البعث بهذه الأخلاقيات وتكسيرها وتحطيم أي اختلاف يمكن أن ينتج داخل هذا المجتمع ليتحول عدد كبير لدينا من الشباب من حالة الإبداع إلى حالة الانكفاء على الذات، بسبب ذلك العنف الأخلاقي تجاههم وتجاه اختلافهم حتى يمكن القول: إن البعبع الأخلاقي خرج من مخبئه لتظهر علينا قيم جديدة لم تكن في الحسبان، ولتضعنا في سؤال أمام ذواتنا المفكرة: هل كنا مجتمعات فضيلة فيما سبق؟ أم أن القضية لا تعدو كوننا مجتمعا يتشابه مع كل مجتمعات العالم، فبقدر ما فيه من قيم فاضلة فإنه في المقابل لديه قيم ليست كذلك، فما بين الأفكار المثالية أو الطوباوية والسلوكيات البراجماتية التي كان مجتمعنا يعيش حياته اليومية وفق هذه الازدواجية التي نراها في كل مكان.

في رأيي أن أزماتنا القيمية ناتجة عن كوننا نعيش مجتمع البين بين كما يقول المفكر المغربي عبدالسلام بن عبدالعالي؛ أي أننا مجتمعات تعيش بين عصرين: عصر ما قبل الحداثة أو التقليدية بشكل أكثر توصيفا، وعصور الحداثة التي اكتسحت كل حياتنا إلى الدرجة التي استطاعت اختراق الكثير من خصوصياتنا إذا كانت لنا خصوصيات مجتمعية، فقيم ما قبل المجتمع الحديث ليست هي قيم المجتمعات الحديثة، ولعل أحدها، مثالاً لا حصراً، بروز قيمة الفردانية، والتي خلقت تأزماً للمجتمعات التي لم تدخل في الحداثة إلا شكلياً وبقدر ما تحقق من رخاء اقتصادي فقط دون أن تطال البنى الفكرية، فبروز النزعة الفردانية، ولو على مستوى الثقافة والفكر فقط، جعل المجتمع أمام قيمة جديدة تضرب في أساس تكوينه الثقافي الذي كان متأصلا لمصلحة الجماعة، وهنا تحل قيمة محل قيمة أخرى بفعل التحولات الاجتماعية، ومن هنا تبرز التأزمات القيمية في المجتمعات التقليدية، ومجتمعنا أحدها. والإشكالية هنا ليست في حلول قيمة مكان قيمة أخرى، وإنما في مدى قابلية هذه الحلول لدى المجتمع التقليدي، فالأجيال الجديدة والتي ظهرت مع وجودها التحولات في القيم، هي في رأيي أكثر انسجاماً مع معطيات عصرها، فهي تتمثل عصرها من غير الإحساس بالأزمة القيمية التي تعيشها الأجيال السابقة عليها، كونها استطاعت التصالح مع ذاتها، لكن تبقى إشكاليات الأجيال السابقة تلاحق الأجيال الجديدة لتؤثر على حراكها المجتمعي إلا إذا استطاعت أن تصنع قطيعة معرفية مع تفكير السابقين.

من وجهها التقني فإن وسائل التواصل الحديثة فاعلة في بلورة قيم وتعزيز قيم أخرى، فهي تأخذ بعدا آخر مع توفر مجالات التقنية في العالم العربي، فقد أعادت هذه التقنية صياغة الواقع من جديد من خلال تأثيره الكبير في إعادة بلورة الوضع العربي خاصة فيما يخص جوانب الثورة الاتصالية الحديثة، أو الثورات الفضائية منذ حوالي العقد أو أكثر، وهي التي استطاعت أن تغير في بنية التفكير من إطار تقليدي مغلق على الذات الثقافية والحضارية إلى إطار أكثر انفتاحاً واختلافاً حتى على المستوى الفردي للكثير من الأشخاص، فضلاً عن تحول الكثير من التيارات التي كانت تتسم بالتقليدية وترى خطورة التقنية والفضائيات على وجودها الفكري والاجتماعي... أقول: مع توفر مجالات التقنية وتأثيرها على الواقع العربي يبقى السؤال حول رؤيتنا الثقافية للتقنية مطروحاً على أكثر من سياق: الاجتماعي والاقتصادي والفلسفي والديني وبالطبع الأخلاقي في الأخير، وهذا ما يهمنا في هذا المقال.

بالتأكيد أن التقنية حدث ثقافي بارز، ولذلك فإن التغيّر الثقافي أو التحولات الاجتماعية هي نتيجة العديد من التحولات التقنية وتسارع وجودها وطرحها على أرض الواقع، ومع بروز الكثير من الأساليب الاتصالية الحديثة فإن العالم سوف يصبح أكثر تسارعاً وتقارباً، إذ ربما أن التسارع والتقارب يجعل من الرؤى التقليدية التي كنا نحملها في تصوراتنا عن العالم المحيط بنا سوف تكون مختلفة ومتخلفة بالكلية.

إن قراءة الحدث التقني كحدث ثقافي يسمح لنا بتتبع الكثير من التحولات الاجتماعية والثقافية على المدى القريب، الأمر الذي يمكننا من التعامل مع التحديات القادمة برؤية فاعلة تجعلنا لا نعيد تكرار أخطائنا مع كل قادم جديدة يخترق حجبنا الاجتماعية والثقافية، لكن الأهم هو قراءتها من وجهة نظر أخلاقية ودراسة إشكالية التعامل الأخلاقي مع الآخرين، وخاصة في وسائل التواصل الحديثة، كونها كاشفة عن أزمة الأخلاق بحيث يمكن أن ينهي أي إنسان إنسانا آخر عن طريق نفي حقه في التعبير عن ذاته بأي وسيلة كانت، لكن وبسبب لا أخلاقية الطقطقة فإن وجود الإنسان منفيا جملة وتفصيلا وستبقى الأخلاق تحت رحمة العابثين.