أسست أحكام الجمهور في مكة والمدينة بدايات النقد في العصر الجاهلي، حيث كان يتم تقييم الشعر وتنبيه الشاعر لخطأ وقع فيه وما يلقى من الشعر قبولا سرعان ما تغنيه القيان، ومن القصائد ما يروج ويعظم شأنه حتى تعرف باسم لها بين الناس. كان الشعر ديوان العرب قبل أن تزحف وسائل الإعلام وأجناس أدبية أخرى لتزاحمه ولتنال كثيرا من مكانة الشعر التاريخية في وجدان العرب؛ الشعر بوصفه تأريخا وتسجيلا وإعلاما لا الشعر كفن وما بقي من الشعر ليس إلا جمالياته المجردة من وظائفه الأخرى. بقي منه ما يذكر بعرب البيان واللغة في عصور ذهبت. موضوعي ليس أدبيا ولا عن الشعر سأتحدث، فمؤخرا ضجت وسائل التواصل بالتنديد والسخرية والتشنيع على شاعر (فاز سابقا بجائزة أمير الشعراء) بسبب قصيدة، وانبرى آخرون مدافعين عنه، طائفة تتهم الشاعر وتشير إلى انتمائه وتتهمه بالدس أو لنقل بالغموض، وطائفة أخرى تبرر له كيف لا وهو يصف رقته في قصيدته (التي وصلت حد الميوعة بحسب منتقديه) بالحضارة.. ويتهم ضمنيا منتقديه بالجلافة والتصحر.
القضية شائكة راقبتها بحس نقدي للناقدين والمدافعين، هناك من أنحى باللوم على الذائقة التي أفسدتها قنوات الشيلات! وكالعادة نبرة السخرية تفوق صوت العقل وتذكرنا بثقافة القطيع الذي يحمل المشاعل في عصور الظلام بأوروبا ويحرق بيوت المشعوذات.. إثارة القطيع سهلة والتحكم به مستحيل. لا أخفيكم؛ أنحاز لإبداعه ولفوزه بجائزة أمير الشعراء، ولا أرى في القصيدة بأسا، بل هي من نمط قصائد المدح التي تتضمن حب ورعاية الحاكم ووليي عهده، رعاهم الله. من يقرأ التاريخ سيجد قصصا مشابهة كاد يفتك فيها بشاعر لأنه عبر بلغته وأفكاره التي لا تناسب الممدوح، كابن الجهم في وصفه المتوكل بجلافته التي سنتها قسوة الصحراء، كما سنجد المتنبي الذي ذاب حبا في سيف الدولة يلمز كافورا في مدحه، فأي الشاعرين كان شاعرنا؟
مالي أكتم حبا قد برى جسدي؟ وتدعي حب سيف الدولة الأمم!
نص في حب الحاكم تآلفنا معه لأنه من التاريخ، لكن هل يليق بمقام سيف الدولة؟ سؤال يختصر الزمن بين نصين وموقفين: نص المتنبي أثار الأمم فأوغروا صدر سيف الدولة حتى رماه بالدواة، فهل حسدنا شاعرنا حيدر على مقامه ومكانه أمام الملك، أم هل افتقدنا الذائقة التي تقدر الكلمة وتعيها؟ أم هو الأثر لطريقة الإلقاء التي تختلف عما تعودنا من حماسة كما قال أحد فرسان اليوتيوب: تعودنا من خلف بن هذال أنه حين يقول: (يا سيدي) ننتفض من خلف الشاشة!
الفكرة التي تسكن هذا المقال ما يدور بين الناس من نقد ونقد النقد، ونقد نقد النقد! بكل وسيلة بين حوار صوتي أو كتابي أو مرئي، فالتعبير عن الرأي بقوة وحدة يصبح ضرورة حين نريد أن يحدث التغيير، وحين نطمح للأفضل في مجال. والواقع أن الحياة تقبل الغث والسمين وترفض الغث أحيانا وترفض السمين أحيانا أخرى، ومن هذا ما يدور من جدل حول مؤتمر الأدباء وما يدور بداخله من نقد ذاتي، أيضا المطر وقضاياه التي امتدت لتخبرنا عن مدى رداءة البناء كما اعتدنا كل عام، ومما يثير التساؤل بيوت الطين الصامدة عشرات السنين أمام مبان مليونية تنتظر أقل قطرة مطر لتفسح لها المجال لتعبر!
بين هذا وذاك هناك رأي صادق ولو كان صادما لأن صاحبه يضع الكلام في موطن لا أحسن منه ويمتع من قرأه وسمعه، وكأنما هُدي لشجرة الوعي يأخذ من قطافها ما شاء متى شاء، ورأي يقارب ولا يسدد ورأي يسدد ولا يقارب!
أحد الذين دافعوا عن وزارة الثقافة قلل من شأن علم نفخر به من أهرامنا الثقافية، وحين قلل فهو قد ضن بالمدح ظنا أنه أحرجه، وهو لم يحرج إلا نفسه، فقد أخذت مبالغته دليل سوء أدب مع الأكبر منه مكانة وفضلا، لأن القنبلة حين تنفجر تصبح أثرا بعد عين، أما الكلمات فتشغل حيزا من الفراغ لم تسبق له!
من أحكام الجمهور المعاصرة تخفيضات أحد الأسواق وما سبقها من ترغيب وما رافقها من همجية المتسوقين وزيف بعض الأسعار واختلاط الحابل بالنابل، وما لحقها من ترهيب. كل هذا الجدل يكشف عن أمرين متناقضين، الأول سرعة التأثر وتصديق كل دعوة، والثاني المحاكمة العقلية لما حدث ويحدث، فهي كما عبرت إحدى الصديقات وسيلة تكشف لنا عقول بعض الناس من خلال نظرتهم للوهم وانجذابهم له أو دفعه.
من أعظم الحيرة أن تختزل إنسانا في مشهد أو موقف عابر، لكنها طبيعتنا التي تتأثر بانبهارنا أو بسخريتنا أو جهلنا. وعن الانبهار ما زال غازي حين يحضر ويحضر الشعر أتذكر وقوفه بين يدي الملك فهد -رحمهما الله- وهو يلقي قصيدته الرقيقة، متغزلا بضرب من العشق لا بدرب من الحجر طار بالواحات للجزر.
أخيرا الذائقة التي تتقبل الشيلات وتغذي سمعها وروحها وما فيها من نخوة و(هياط) لن يبقى فيها شيء لشعر رق لفظه أو ترقق ملقيه. النص يحاكم ذائقتنا في القبول والرفض، فلك أن ترفضه لسبب أو لآخر، لكن لا تعزله عن سياق المدح ولغة الشاعر وطبيعته، علما بأن بعض الشعراء يخدمون شعرهم بإلقائهم، وآخرون العكس تماما، وهي بالنهاية ملكة إلقاء كما هي ملكة إبداع.