يسود الكثير من الصمت السياسي، إقليمياً ودولياً، على التجاوزات التي تقوم بها كل من روسيا وإيران في سوريا وحلب بالذات، مستفيدين من المرحلة الانتقالية في الإدارة الأميركية، أو بمعنى أوضح مما تبقى من ولاية أوباما الذي أعطى إيران وروسيا تغطية أميركية لما ترتكبانه بحق الشعب السوري، لا سيما بعد أن عطلت إدارة أوباما الإرادة الدولية بمؤازرة الشعب السوري، واكتفت بالأمم المتحدة والمبعوثين الدوليين إلى سوريا واليمن وليبيا، والذين لم يحققوا شيئاً على مدى 5 سنوات سوى تغطية المزيد من الدمار والمجازر بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد.

إن هذا الصمت يأخذنا إلى التفكير في كيفية تكوّن النظام الدولي الجديد، بعد أن عادت روسيا إلى لعب دور عسكري في كل المواقع التي كانت تعتبر مناطق نفوذ للاتحاد السوفيتي السابق إبان الحرب الباردة، من سوريا إلى اليمن إلى مصر ومؤخراً ليبيا بعد زيارة المسؤول العسكري الليبي اللواء خليفة حفتر، وهذا يوحي بأن أميركا بحاجة إلى حرب باردة جديدة بمعايير مختلفة تكون القوة العسكرية هي أداتها، لأن الحرب الباردة السابقة كانت على أساس أيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية، وتم اقتسام مناطق النفوذ على أساس الحماية من هذا الفريق أو ذاك.

الحرب الباردة انتهت عمليا بعد ما عرف بسقوط جدار برلين، وقد تمّ التعامل مع نتائجها على أساس اقتصادي بحت، فبادر الاتحاد الأوروبي إلى استيعاب دول أوروبا الشرقية أو الشيوعية السابقة في إطار الاتحاد، وفتحوا الحدود فيما بينهم. وكان التحدي الأكبر هو الوحدة الألمانية بشقّيها الغربي والشرقي. وربما تكون الوحدة الألمانية المتحققة هي قصة النجاح الوحيدة لما بعد سقوط جدار برلين، لأن الاتحاد الأوروبي الآن مهدّد بالتفكّك والعودة إلى الأحزاب القومية والدينية، وذلك بسبب انضمام الدول الأوروبية الفقيرة أو الشيوعية السابقة إلى الاتحاد الأوروبي.

الأمر عينه بالنسبة للولايات المتحدة التي أطلقت فكرة الأحادية بعد انتهاء الحرب الباردة وسياسة القطب الأوحد في هذا العالم. وسياسة الأحادية أعادت أميركا إلى الاحتلالات على نمط ما قبل الحرب الباردة، فكانت تجربة حرب أفغانستان، ومن ثم احتلال العراق، كافيتين لخسارة الجيش الأميركي هيبته وتفوقه الميداني كجيش كلاسيكي، مما استدعى تشكيل لجنة الحزبين الديموقراطي والجمهوري برئاسة بيكر الجمهوري وهاملتون الديموقراطي. وقد رفعت هذه اللجنة تقريرها عام 2007 الذي عرف بتقرير بيكر- هاملتون، والذي أوصى بالانسحاب من العراق ومن الأحادية، والعودة إلى تشكيل تحالفات دولية والخلاص من المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية.

بدأت الحرب الباردة عمليا بعد مؤتمر يالطا بين تشرشل وروزفلت وستالين، أو ما عرف بالحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وذلك في فبراير 1945. وجرى اقتسام العالم بينهم، وخضعت الدول المهزومة، وفي مقدمتها ألمانيا واليابان، إلى شروط قاسية، خصوصا حرمانهم من صناعاتهم العسكرية. وهذا ما ساعد على تعاظم القوتين الروسية والأميركية على حساب الدول القديمة مثل فرنسا وبريطانيا. استمرت الحرب الباردة بين القطبين حتى انعقاد قمة مالطا عام 1989 بين الرئيس الأميركي بوش الأب والرئيس الروسي غورباتشوف صاحب نظرية البيروسترويكا أو إعادة البناء. وخلال هذه القمة اعترف الاتحاد السوفيتي بمشاكله الاقتصادية والسياسية، وخضع إلى تخفيف ترسانته من الصواريخ الإستراتيجية مقابل مساعدات مالية واقتصادية. وكما شكّلت قمة يالطا بداية الحرب الباردة وصعود نجم الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية؛ جاءت قمة مالطا لتشكّل بداية النهاية للاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي مع سقوط جدار برلين عام 1989 وصولاً إلى تفكيك المنظومة الاشتراكية كاملة عام 1991.

هناك الكثير من الإشارات التي شاهدناها مع سياسة أوباما حول تراجع أميركا عن تعهداتها تجاه الحلفاء والأصدقاء، بالإضافة إلى إظهار صداقات جديدة مثل روسيا وإيران. وهذا ما لا يتناقض مع شعارات ترامب الانتخابية، ومنها الدعوة إلى تفكيك حلف الناتو والطلب من الدول الأخرى تحمّل أعباء هذا الحلف. وكلّها إشارات تؤدي إلى الاعتقاد أن أميركا تريد الاستثمار بالقوة العسكرية، أي تحويل الجيش الأميركي إلى شركة أمنية عالمية تقوم بمهامها مقابل بدل مالي، وذلك بعد نجاح سياسة الفوضى الخلاقة ونشوب حرب باردة جديدة.