العم أبو عبد الله رجل يسير الحال، كان في شبابه يعمل حارسا لبوابة إحدى المستشفيات في مدينته. وبعد سنين من الكفاح والشقاء في طلب لقمة العيش له ولأبنائه الستة، تمكن من توفير مبلغ من المال حصل به على قطعة أرض في إحدى العشوائيات. كان ذلك قبل أن يشمل العشوائيات التخطيط، وربما قبل أن تكتشف البلدية وجودها أساسا.
وبلا ماء ولا كهرباء ولا إسفلت ولا صرف صحي بنى العم أبو عبد الله بيته وعاش فيه 20 سنة، قبل تخطيط المدينة. بنى بيته بالحصى واللبن وسقفه بالأخشاب. لاحقا بدأت البلدية تخطيط المدينة، ودخل بيت أبي عبد الله في أعمال التخطيط. عند ذاك أخبره جيرانه أنه لا بد أن يسعى مثلهم للحصول على صك تملك رسمي لبيته من المحكمة، وبالفعل حصل الرجل على الصك، الذي كان يعني له كل أحلام المستقبل.
لاحقا تقدم الرجل إلى صندوق التنمية العقاري بطلب قرض بناء، وبالفعل أدرج اسمه في كشوف المستفيدين، ثم وصله الدور بعد أن تزوج أولاده وبناته وبقي هو وعجوزه وحيدين. فرح الأب وأولاده بالقرض وبدأوا يخططون، فكل ولد منهم سيحصل على شقة جميلة في البيت الجديد.
لما ذهب الرجل يتقصى أخبار التسليم وشروطه تفاجأ بوجود (رسوم) قبل تسليم القرض؛ قدرها 95000 ريال. حين سمع الشيخ ذلك صرخ في الموظف متعجبا: رسوم؟! كيف يكون ذلك والأرض مملوكة لي بصك شرعي؟! أجاب الموظف: هذه رسوم البناء في عشوائية، ولا علاقة للصك بها. أجاب الشيخ بصوت متقطع: هل تظن أني كنت أملك خيارا أفضل من العشوائية في ذاك الزمان؟! ثم إني لم أسرق الأرض بل اشتريتها ثم تملكتها بموجب هذا الصك. ألم تكن البلدية تعلم ذلك حين منحتني الصك؟! العشوائية التي بنيت فيها بيتي -وحتى المدينة بأكملها- لم تكن مخططة، فلمَ أتحمل أنا الفقير الضعيف خطأ بلدية المدينة؟ نظر الموظف إليه نظرة جادة وأجابه ميئسا: لا، وأزيدك من الشعر بيتا، بعد دفع رسوم البناء في عشوائية، عليك أن تتحمل تكلفة هدم البيت القديم وحفر الساس، قبل أن تحصل على أول دفعة من القرض.
تهاوى الشيخ وجلس على الأرض وهو يتمتم بصوت متهدج: يا ولدي أنا لم أسرق أراضي الدولة وأضمها إلى قصري المنيف سنينا بمباركة البلدية حتى تؤخذ مني غرامات! أنا رجل يسير الحال اضطررت لفقري وضيق يدي أن أعيش العمر كله في عشوائية!
لم يجد الموظف جوابا يطمئن به الرجل ويجفف عبارته إلا أن يقول مقترحا: يا عم إذا كنت لا تستطيع تحمل هذه المبالغ قبل الاستلام فتنازل عن قرضك لمن يليك في ترتيب المستفيدين، وسوف يتفاهم معك على مبلغ ترضية جيد. هذا ما يفعله العاجزون عن الدفع عادة.
ترنح الرجل وهو يحاول النهوض مخرجا القلم من جيبه ليوقع على تنازله عن كل أحلام الماضي والمستقبل.
هذا السيناريو ليس خياليا بل هو واقع أصحاب العشوائيات الحالمين ببيت العمر، فأبو عبد الله حالة من مئات الحالات التي تحتاج إلى استثناء من قبل المسؤولين في صندوق التنمية العقاري؛ إذ ليس الشراء في منطقة لم يشملها تخطيط المدينة ذات يوم ذنبه حتى يتحمله كاملا؛ فأصحاب العشوائيات، حين ابتنوا بيوتهم وسكنوها في أسوأ الظروف، لم يكونوا على علم أو حتى على وهم من أنها ستدخل يوما في التخطيط ويصبح تملكها وبالا عليهم؟ ثم أين المحاكم التي منحتهم صكوك التملك من أعمال البلدية ومشاريع التخطيط؟ ومن سيرد إليهم العمر الطويل الذي قضوه في انتظار القرض العقاري؟! أليس من الأجدر أن ينظر الصندوق حال الأرض التي تقدم صاحبها بطلب القرض قبل الموافقة وإدراج الاسم في طابور الحالمين بالعقار؟
كل تلك الأسئلة تضع الجهات المسؤولة أمام واجبها، إذ من الإنساني أن يعامل المواطن المستفيد من القرض حسب ظروفه الحياتية لا حسب اللوائح والأنظمة التي لا تفرق بين غني وفقير.