لا أعتقد أن هناك قضية متعلقة بالفساد أو هدر المال العام نالت من الاهتمام والمتابعة الإعلامية مثل قضية الفساد التي حرّكتها أحداث سيول جدة الأخيرة. ولا عجب في ذلك لأنه ثمة أرواحاً بريئة دفعت ثمن التقصير والإهمال، ومازال أحبتهم ينتظرون نتائج هذه المحاسبة بصبر نافد. وثمة سبب آخر ساهم في إثارة الاهتمام بهذه القضية وتحريكها، هو أننا اليوم في عصر ما يُسمى بالإعلام الجديد، إذ ساعدت التقنيات الحديثة المختلفة في تسهيل انتشار الخبر أو المعلومة بالإضافة إلى تجاوزها لمقصات الرقابة والحواجز البيروقراطية.
كمستخدمة يومية للشبكة، فإنه لا يكاد يمر يوم دون أن أقرأ خبراً هنا أو هناك عن هذه القضية، حتى بدت لي حماسة الشباب، خصوصاً ضد قضية الفساد هذه، منقطعة النظير. للوهلة الأولى يبدو الأمر إيجابياً إلى حد كبير، ويـُوحي ربما بأن شرارة المحاسبة والشفافية الحقيقية قد انطلقت بجدية هنا، ولكنني مع كل توتية (نسبة إلى موقع توتير والذي يُمكن المستخدم من تحديث حالته ونشر تعليق لا يتجاوز 140 حرفاً – راجع مقالتي في "الوطن" 3148) تتحدث عن الفساد وتنقل آخر أخباره بحماس.. بدأت أفكر: هل الأمر كذلك فعلاً؟
ليس دفاعاً عن المتهمين أو الموقوفين في هذه القضية، ولكن هؤلاء ما كانوا ليفعلوا ما فعلوه لو كانت هناك محاسبة وشفافية منذ البداية، ولو كان هناك نظام واضح يمنع الناس من استغلال مناصبهم العامة لأغراضهم الشخصية أو هدر المال العام سهواً أو عمداً. فالأنظمة في الدول المتقدمة تفترض حسن النية في الناس، لكنها في الوقت نفسه تضع القوانين الحازمة والواضحة في ما يتعلق بالعقوبات التي سيـُواجهها من يخالف هذا النظام. ولكن الأمر عندنا ليس على هذا النحو، فهناك شبه غياب لبعض التنظيمات الإدارية الضرورية أحياناً، أو أنها موجودة لكنها غير واضحة أو محددة. فمثلاً: لماذا لا تكون رواتب من يشغلون مناصب عامة معلنة؟ وبالتالي سيسهل ملاحظة الثراء المفاجئ والبحث عن مسبباته.
باختصار: الأنظمة السارية المفعول غير شاملة أو غير مُفعّلة كما ينبغي. أما لماذا هي غير مفعّلة، فلأن هناك ثقافة "تـُبارك الفساد" بصوره المتعددة، وهذه الثقافة مُتأصلة في بعضنا إلى حد كبير، لدرجة أن عددا كبيرا مارسوها بشكل أو بآخر.
فالفساد ليس مالياً فحسب. الواسطة بكل أنواعها هي رأس الفتنة الأعظم، فعبرها يتم تجاوز الأنظمة والقوانين بل حتى الأعراف، مع أن بعض هذه الأعراف هو في الأصل أيضاً "مُبارك للفساد" على أسس متنوعة، بل وقد يجد بعضنا لها أيضاً تخريجات وتبريرات "شرعية"!
الأمر يبدو سيئاً حين يتعلق بمناقصات تجارية أو مشروعات تطويرية، ولكنه صحيح أيضاً في ما يتعلق بالأفراد، بل لعله أشد ضرراً في الحالة الثانية، لأن عدد من يمارسون هذا الفساد أكثر بكثير. فلو سألنا أنفسنا بصراحة عما إذا سبق أن استخدمنا وساطة ما في حياتنا سواء في صغير الأمور أو كبيرها، فإن الجواب – لو كنا صادقين - سيكون بنعم كبيرة!
الناس تستخدم الوساطات لدخول المدارس والجامعات والحصول على بعثات ووظائف وترقيات وانتدابات، كما أنهم يستخدمونها للحصول على حجوزات طيران، ولأخذ كرت الصعود للطائرة قبل الآخرين في المطار، بل وحتى لتحديد مواعيد مع أطباء في مستشفى حكومي. ولن نتحدث عن الوساطات في موضوع منح الأراضي (أو المخططات) التي توزعها الدولة للمواطنين، ولا عن التجاوز الحقيقي للقانون عبر الوساطة كما في بعض مخالفات السير أو مخاصمات الأفراد، بل حتى يصبح الأمر أكثر إثارة للسخرية المريرة فنحن نبحث عن وساطة حتى للحصول على موقف سير لا نستحقه، أو لإدخال سيارة لا تنطبق عليها الشروط المعلنة إلى المشاعر في موسم الحج.
سيجادل بعضهم في أن الإنسان يضطر أحياناً إلى فعل هذه الأمور لأن "الناس ماشيه كده!" وهذه هي بالضبط الثقافة التي كنت أتحدث عنها قبل قليل. فما دمنا كلنا مقتنعين بأن الأمر عادي جدا، وكل الناس تفعله، فإن ضميرنا غالباً سيكون مرتاحاً، ولن نشعر برغبة في إحداث التغيير المنشود، فنحن فقط نتذمر من الوساطة حينما نكون نحن الطرف الذي تضرّر بسببها، أما الطرف الذي "استنفع" فسيجد لها تبريرات من عينة: "فلان الله يجزاه خير ساعدنا" أو "نعرف واحد هناك في (....) وخدمنا" أو "أصله بيننا وبين فلان رحم وزمالة من زمان وحبّ يتجّمل معانا!".
وستجادل مجموعة أخرى في أن العيب في عدم مرونة الأنظمة وبالتالي يضطر الناس للجوء إلى الأبواب الخلفية، وهذا أيضاً جزء من الثقافة إياها، فحين لا يكون النظام مرناً فعلينا أن نطالب بتحديثه وتطويره لا أن ننجرف معه ونستسلم له.
يقول غاندي (كنْ أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم). وهكذا ينبغي أن يكون الأمر في قضية الفساد، سأكون سعيدة أكثر لو أن هناك حملة موازية لحملة المطالبة بمحاكمة المتهمين في قضية سيول جدة ظهرت لتحث الناس على محاربة الفساد الذي في أنفسهم وفي أسرهم. فحين أقول أنا وأنت وهو وهي: لا.. للفساد ولا.. للواسطة.. عندها سنبدأ في رؤية بوادر الإصلاح الحقيقي والمحاسبة الصحيحة داخلنا، فالله لن يغير ما بنا حتى نغير نحن ما بأنفسنا.