حتى هذه اللحظة من التقدم التقني والمعرفي، من الانتماء الصاعق والمطلق لهذين المجالين في السعودية، إلا أننا لا زلنا نعيش في وعي سطحي جدا، حتى اننا أحيانا ندرك بأننا كمجموعة أطياف لا نشبه أنفسنا دوما، أننا كأفراد متغيرون ولكننا لسنا متماسكين كما ينبغي، فنحن لا نعزف على ذات الوتر، ولسنا على تناغم مع صورة محددة عنا، حينذاك، فأنا أؤكد على أنه لم يحن الآن لكي ننظر إلى كل ما يقوم به الآخرون يتوجب أن يكون ملتزما بفضائل المدينة الأفلاطونية. الحقيقة التي أقف أمامها طويلا هي في أن المواطنين من دون استثناء، شغوفون بمجابهة الحزن فقط، والبحث عن كل ما يمكن أن يتعلق به، ولا يريدون عمدا أن يتنبهوا إلى أن هناك سعادات عديدة بها مخزون هائل من اللحظات الفريدة، ولكن البعض لا يريد أن يكون مؤهلا للعيش، وإنما هو ينشط على أن يكون تائها وسط العلنية. يقول أجدادنا لأبنائهم إن الحزن بمعناه الحرفي والمتعارف عليه، يمكن لهم لقاؤه إذا ذهبوا إلى أعلى الجبل واصطحبوه معهم إلى القرية، ليعيش في وسطهم، والسعادة هي كذلك، يمكنك أن تجدها من دون أن تفكر في كم عدد الأيام والساعات التي عليك أن تنتظرها. لا تشفق على حالك، لأنها إن لم تأت اليوم بالتأكيد ستأتي في اليوم التالي. هذه المشاعر المتراكمة التي دعتني لتدوين المقال، أجبرتني على أن أصيخ السمع للصوت الغائب بداخلي، كنت أحمل الكثير وأحيانا القليل من الغضب، لا زلت أرفض فكرة بناء مجتمع أفلاطوني مثالي، فأنا لا أطيق المثاليين، بل أهرب منهم، ولا أسعى لأن أكون برفقة أحد منهم ولو لبرهة من الوقت، لهذا يمكنني أن أقول إنني بدأت جيدا في استيعاب مفهوم الأصوات التي تخرج من خلال منابر وقنوات التواصل الاجتماعي، تلك التي تدفعك لأن تتعرف بشكل مُلح على مشكلات العالم المأساوية، ومشكلتهم أيضا في كيفية تأطير علاقتهم مع الوطن، والحكومة، والوزراء، والناس الذين يشبهونهم أو حتى لا يشبهونهم، وسعر البنزين، و"لخبطة" جداول خطوط الطيران، وفواتير قطع الإشارة الحمراء، ونظام ساهر، وتدني مؤشر الوعي المتأخر تجاه وجوب الالتزام بينهم وبين الآخرين.

أمور عديدة لا أستطيع القبض عليها الآن، ولكني وددت من خلال سردي لهذه القائمة، أن أقول إن هناك قضايا عديدة تشغل المواطن، لكنه للأسف لا يريد أن يبحث عن حل من أجل إقامة المجتمع الذي يريده "هو" وبشكل شخصي أن يكون. لا يمكن أن تتغير الصورة طالما ظللنا في الفراغ ولم نتحرك منه، علينا أن نحدد التزامنا وبعدها نصيغ جميع المشاهد التي يتوجب علينا أن نكون جزءا واعيا فيها.

يوم الجمعة الماضي شعرت أو خيل لي في لحظة فاصلة، ربما لم أكن جديرة بقراءة ما يدور بداخل أفراد المجتمع السعودي، ولكني أحسست بأنني وربما خمسة فقط هم من يتحدثون عن بدء انطلاقة الصرح العظيم مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي في الظهران، حيث قامت أرامكو السعودية بتشييده وبنائه، ويفترض أنه يمثل رافدا جديدا للحركة الثقافية والفكرية في المملكة، كثيرون تساءلوا أين يقع المركز؟ والبعض لتوه علم بأن هناك منارة ثقافية وحضارية جديدة، من مهامها تقديم المبادرات الإثرائية لمختلف شرائح المجتمع، بغية تقديم الخطاب الثقافي السعودي بصوت أكثر تعبيرا.

وحينما بدأت أغرد عن المركز الثقافي العالمي، تفاجأت، فقد شعرت بأنني الوحيدة التي تغرد بمفردها خارج السرب، وحينها بحثت عن المشاركة عن الأيدي التي ستصفق معي، حقيقة إنني شعرت بالوخز في قلبي، حتى أفقت على صوت النظرية التي لازمتني لفترة، وهي أنه ليس من الممكن أن نطلب من الآخرين أن يتحولوا إلى شعراء وعظماء وقادة ومعلمي تربية بدنية، ونشطاء في العمل الخيري، أو حتى بائعي جرائد أو شطيرة كبدة وبرجر. إن هؤلاء الناس الذين أعيش في وسطهم، يمتلكون خبرات تختلف تماما عن خبرتي، ويمتلكون أيضا أجندة لربما لا تتناسب مع القيم التي يفترض أنني أدافع عنها وبحماسة. المركز الذي تم التصريح، مؤخرا، بأن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، سيقوم اليوم الخميس بافتتاحه، لا زلت أتعجب كيف لم يتضافر الشعب كله من أجل تمجيد العمل، واعتباره منارة حديثة لتنقلهم وتنقل أبناءهم من الجيل الجديد نحو تغير معرفي. كنت أتصور أنه على الأقل سيكون هناك "هاشتاق" يعبر فيه المواطنون عن رغبتهم في حضور الاحتفال، والتعرف على هذا المبنى المميز، وربما أجمل ما يميزه بشكل شخصي سعادتي بأنه قريب جدا لمنزلي، وأظن أنني سعيدة بشكل لا يوصف لأنه يمكنني أن أرفع رأسي ما أن أخرج من البيت، وأجده من بعيد شامخا في فضاء وطني السماوي، سأحاول أن أعيد ترتيب قصصي الجديدة من خلال قاعاته، التي من الممكن أن تمثل بالنسبة لي قفزة مختلفة. لقد أخبرت جميع الصديقات والزملاء الذين يعيشون في مختلف أوطان العالم العربي، بأهمية مجيئهم لزيارة المركز الثقافي، وأنني سأكون دليلهم وسيدهم.

لكن الكثير لم يكن لطيفا أبدا حينما سقطت الأمطار بكثافة قبيل الافتتاح، ولم يدعم موقف الشركة التي رأت أنه من أجل سلامة الملك والوفود الزائرة تم تأجيل الافتتاح. المواطنون كانوا جاهزين لنقل الكلام عن تسرب الأمطار للمبنى! لحظة فقط أريد أن أفهم: اعلم أيها المواطن والمواطنة أن صورا كثيرة التقطت للمركز وقد غطت المياه الساحة الكبيرة قبل الدخول إليه، ولكن لماذا تركنا كل ما هو جميل في هذا الصرح الباذخ، وبدأنا نبحث عن المتسبب، ونطالب باستقالة فلان وعلان، ونطالب بإلزام مجلس الشورى بأن يتحدث عن التسرب الذي حدث، أتصور لو حدث ذات المشهد في أي دولة أوروبية، أنا متأكدة تمام التأكيد ومن دون شك، سيهرع أهالي المدينة بكل جهودهم وقوتهم للمساعدة، لأنهم واثقون من أنه ستكون هناك لجنة ستحاسب المقصرين في أداء أعمالهم ولن يمر الأمر سُدى. كنت أتمنى لو قامت مجموعة من المتطوعين من المواطنين والمواطنات، بالاتصال في اليوم التالي على مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، والسؤال إن كانت هناك حاجة إلى متطوعين للمساعدة أم لا؟ ولكن ذلك لم يحدث، الشباب والشابات على حد سواء، انشغلوا في "الطقطقة" المعتادة على الحدث، ولم تذرف دمعة واحدة منهم على أن المركز الذي يمكن أن يكون له دور مؤثر، يمكن أن يتأخر افتتاحه بسبب الأمطار. أنا لا أطلب منك عزيزي القارئ والقارئة الصمت أمام ما حدث، لكني أشعر بأنه لا يوجد أي انتماء لما يقوم به الوطن، لم أشعر بأي مواطن وقد سأل إذا ما حدثت إصابات جراء المطر، وهل العاملون والموظفون بخير؟ الكل كان يتداول الصور المضحكة، وللأسف كنت من ضمن الذين تبادلوا الصور عبر حساب "الواتس آب"، نظرا لشخصيتي المحبة للمرح، لكني بعد ذلك وجدت أنه من المعيب جدا أن نتحدث عن مشكلة قد حدثت من دون أن نكون اليد المساعدة من أجل هذا الوطن الغالي. الأمر الآخر الذي أود أن أطرحه على مسؤولي المركز، لماذا لم يفكروا بأن يكون هناك مجال لجميع المواطنين والوافدين لحضور فعاليات الاحتفال، كما تفعل كبريات الشركات الداعمة، لابد أن يكون هناك جمهور، وليس من الضروري أن يكون في أول الطابور، ولكن تخصص مساحة للمواطنين والوافدين وأسرهم، وتوهب لهم فرصة المشاهدة وتوثيقها بالصور وبثها إلى العالم أجمع، عبر تطبيق "إنستغرام" أو "السناب شات"، مما يؤسفني حقا حينما يصبح بعض المسؤولين عاجزين عن رؤية المشهد كما ينبغي، من دون تعقيد على غرار بعض مدن الخليج التي تنافسنا في الإبداع والثورة التقنية والثقافية. ثمة تحيز غير معلن يتعلق بالذين تمت دعوتهم، حيث تم تجاهلي وعشرات غيري، ولا أعرف من هم الذين وقع الحظ عليهم للحضور ومشاهدة هذا الإنجاز الأضخم والأكبر على مستوى الشرق الأوسط، من هم؟ دقيقة، عليّ أن أتذكر أننا لسنا مجتمعا إفلاطونيا.

وهنيئا لمن حضر الاحتفال.