يعتقد البعض أنهم ملزمون ومطالبون بالحديث في كل محفل يحضرونه، لتعريف أي شيء وكل شيء، هكذا! ويرى كل خروج عن ديباجته التعريفية تلك خروجا على ملته، سواء أكانت دينية أم ثقافية أم معرفية بشكل عام، وهذا لا يبعث إلا حمية متعصبة لقراءات أو تلقينات معينة تلقاها ذهنه في زمن ما.

ويغرق البعض في التعصب لأطروحة يعتقدها، حتى يصل إلى أطراف فقدان الأصدقاء في حواراته، هكذا ببساطة يحول العقل العربي والإسلامي مناظريه إلى أضداد وخصوم، في الوقت الذي يتطلب فيه ذلك وعيا أكبر بماهية الاختلاف لا الخلاف، وهي نقطة تبدو عصيبة عليه في الوقت الراهن، نتيجة جذورها التاريخية، وكم الأدلجة الهائل الذي صبغ به ولا يزال يتلقاه على نحو ما، ويظهر ذلك في تشنجه ونفوره من الأطروحات التي جاءت مع منطق الحوارات الثقافية المتتالية، وترعاها المشاريع الفكرية الحديثة، كالليبرالية والديمقراطية وغيرها من المشاريع الفكرية، التي لاقت رواجا كبيرا لدى هذا العقل، ومن المفارقة أنه يستخدمها دون غضاضة مع خصومه ومحاوريه، مع اقتناعه برفض العمل بها خارج قناعاته! وبالتالي فهي أشبه بعصا مكسورة، لا تصلح لأي شيء سوى السخرية منها ومن حاملها، وهذا لا يمكن له أن يبني جسورا لصنع حوارات فكرية وثقافية تسعى إلى الوصول لنقطة اتفاق على الإطلاق.

المقطع الذي تداولته وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا عن محاضرة المفكر إبراهيم البليهي، على الرغم من قدمه الذي يعود إلى العام 2013، إلا أنه شرح أبعادا مهمة عن الرؤية العاطفية للعقل العربي للتجارب الإنسانية بامتياز، وحقيقة التاريخ، وتمسكهم بجبال المعلومات القشرية المبنية أصلا على العاطفة، والدغدغة التي وصف بها "البليهي" مداخلة عابرة أرسلها دكتور جزائري، انبرى للرد على البليهي، والذي استمال فيها الجمهور، ولعبت على الوتر التاريخي الديني بذكاء، إلا أن ما قاله لا يعدو كونه طعما اعتاد الانتهازيون على مر الزمن استخدامه للاصطياد، والريشة المستخدمة لدغدغة القدمين، لكن عقولا مبرمجة لن تستطيع الانتباه إلى الخدعة في حينه! ومثل هذا التناول السطحي للتاريخ يعطل البحث عن المستقبل تماما، ويحيله إلى الثانويات لا الأولويات. لقد تذكرت وأنا أستمع إلى مداخلة ذلك الدكتور، مقولة المؤلف الأميركي ومطور الدروس المشهورة في تحسين الذات، "ديل كارنيجي" في كتابه الشهير، كيف تكسب الأصدقاء وتستحوذ على الناس، "أنا أحب الكرز والفراولة، ولكنني عندما أذهب لاصطياد السمك فإنني أستخدم الديدان، ليس لأنني أحب الديدان في الواقع، بل لأن ذلك ما تفضله السمكة"، ولقد كان ذلك الحدث نقطة دلالة مهمة، على نوعية الطعم المستخدم، وعلى مستوى قوة الممانعة والرفض لأية محاولة لرؤية المشهد حتى من ثقب في جدار الكهف لا من بابه الواسع، وهي دلالة كبيرة على عمق أيديولوجيا الثقافية الأحادية، التي تسيطر على شارع العقل العربي والإسلامي، وتضرب حوله أسوارا عالية، مستندة إلى جملة من المعتقدات والإشاعات والحكايات التراثية، المصبوغة في ظاهرها بالمعتقد الديني، الذي يُعد المخرج الأول في كل حوار إنساني يحاول أحدهم فتحه مع العقل العربي والإسلامي، وهي نقطة يرى أنها جوهر كل حديث ومربط كل انطلاقة، في الوقت الذي يعجز فيه عن الاستمرار خارجها، بل وينهار تماما بدونها، لأنه في الواقع لا يجيد أية رؤية خارج هذه الثقافة الأحادية، ولا يستطيع أن يتماهى مع سواها جراء عزلته التاريخية الطويلة، وما يفسر حدته حالة التوتر التي تصاحب أية محاولة للحديث حول الفلسفة أو المنطق أو المشاريع التنويرية، والتجارب الإنسانية الثقافية.

يقول الفيلسوف "إمانويل كانت" "التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر"، وإن أسباب حالة القصور تلك لا تخرج عن سببين أساسيين، هما الكسل، والجبن! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير، أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى، هيأ ذلك الفرصة للآخرين لاستغلالهم، مستندين إلى عامل الخوف المسيطر عليهم. وأظننا نعيش مأزقا فكريا سيطول صراعنا معه، لكنني مؤمن بأن الزمن كفيل بتغيير كل شيء، وتبديد ذرائع الخوف والريبة مع تواصل العمل التنويري الجاد.