كانت الفرصة مواتية جدا لحنين وهي على منصة العرض أن تبدأ الحديث عن سيرتها الذاتية وأعمالها الإبداعية على الجمهور والمحكمين الذين أمامها، لكنها أخبرتنا بلهجة واثقة أنها ليست في حاجة للحديث عن نفسها، ولا ترى ضرورة لذلك خاصة وأن منجزها وإن كان بسيطا سيتحدث عنها بالنيابة، بل تفضل الحديث عن فنان مغمور لا يعرفه أحد من قبل خارج دائرتها، ليس له أي منجزات حقيقية إلا شغفه بالحياة وركضه خلف تفاصيل الألوان والخربشات، والتماهي العفوي مع كل ما حوله دون الاصطدام بأسوار المنع والرفض والذائقة المتطلبة والانتقائية. بدأت الشاشة بالتركيز على صورة الفنان المغمور الذي تحمس الجمهور لمعرفته وكان الطفل"عزوز" شقيقها الصغير يظهر فيها مبتسما، ترى فيه الفنانة حنين بنظرتها الحساسة للجمال أنه مشروع فنان، وتعده ملهما لها بطرقه في اكتشاف ما حوله بشكل غريب ومختلف، حتى بات يشاركها أعمالها ويترك بصمة تحمل روحه الطفولية خلالها. لم تكتف حنين بهذا التعريف بعزوز الفنان المغمور، فقد أعادتنا معها بالذاكرة لطفولتها عبر صورة لها حينما كانت بعمر شقيقها عزوز، تظهر بوجه ملطخ بالألوان وأعمال يسميها عادة الكبار "خربشات" بينما هي بأعينهم الوامضة بالشغف مشروع جمال لحظي يسكبون فيه كل طاقتهم وإبداعهم. لقد كانت هي بدورها فنانة مغمورة ثم بإرادتها استطاعت أن تحقق الكثير في طريقها الإبداعي الذي بدأته بتميز. صفقنا كثيرا لعزوز، ولحنين أيضا التي فازت بسبب التقاطتها الذكية لهذا الفنان المغمور بجائزة أفضل متحدث في "#بيهانس_جازان" الذي أقيم السبت الماضي لعرض وتقييم أعمال المبدعين في مدينة جازان.
لم تكن حنين وحدها التي أخذت بزمام دهشة الحاضرين لفعاليات هذه الاحتفالية، بل الجميع بلا استثناء من العارضين لأعمالهم الفنية والإبداعية أو المتحدثين في مجالاتهم الفنية المختلفة. ولأنني كنت وقتها بالقرب استطعت أن أرى بنفسي شغف هؤلاء المبدعين بفنونهم، وإيمانهم بأنفسهم وبما يقدمون، وحرصهم على أن يكون التنافس شريفا ومشرفا للمكان الذي يجمعهم وانطلقوا منه. حيث لم يكن هناك في الحقيقة بنهاية الفعالية فائز وخاسر، بل كان هناك متميزون ومبدعون بالمجمل، ومنبهرون، مندهشون مما رأوا على الإطلاق.
كل ذلك الفن والنجاح ما كان ليحدث إلا بما كان يدور خلف الكواليس وقتها وقبلها من اللجان المنظمة للفعالية، إعدادا وتنظيما واستقبالا، بطريقة جعلت النجاح لا يخطئ طريقه إليهم، ولا الدهشة تفارق الحاضرين وهم يرون بنات وأبناء جازان يتسابقون على تقديم الأفضل وإبراز بعض من الثروة التي تحتضنها منطقتهم، ثروة التنوع الثقافي والفني والإبداعي، ودروس التسامح والتصالح مع الذات ومع الآخرين، والتعايش مع كل التوجهات الفكرية والإبداعية دون مصادرة للرأي أو فرض له، والخلو من العقد والأحكام المسبقة، ومنح المبدعين مساحة حرة في فضاء الإبداع ينطلقون فيها دون خوف أو تردد أو حصار يحصي عليهم خطواتهم وطموحهم وجموح إرادتهم. هؤلاء المبدعون والعارضون والمنظمون للفعالية آمنوا بما لديهم من رؤية نحو الفنون، كونها رسالة تنهض بالمجتمع وتهذب النفوس، ووسيلة للتعايش الفطري ومصدرا للتقارب والتعاون، ووضعوا رهانا، أن ينجحوا فيما أرادوا، وكانوا على قدر إيمانهم إخلاصا، وبرهانهم، تجاوزوا المتوقع من الحاضرين والمتابعين والمثبطين. فجاءت جميع تفاصيل تلك الفعالية بأيدي شابات وشباب سعوديين، باشروا جميع المهام والمواقع دون أهداف ربحية أو مادية. وكأي عمل إبداعي عام كهذا يحتاجون فيه للدعم المعنوي، لم يغب أمير جازان محمد بن ناصر عن مشاركة الشباب فعاليتهم الفنية ومباركته لهم هذا التميز، حتى كان حضوره قريبا من روحهم دون تكلف في البروتوكولات الشكلية أو التنظيمية.
جازان وشبابها من الجنسين حتما ليسوا بحاجة لأي إشادة مني، فقد عرفنا مسبقا أنها منبع للفن والجمال والإبداع في كافة المجالات، حتى إذا ما أخذت حقها منه فاضت ببقيته على الآخرين. ولكنها كانت تشبه كثيرا الفنان المغمور #عزوز، تقطف ثمار الفن المثقلة بالجمال كل وقت، وتنتقل من ساحة إبداع إلى أخرى، يوجهها شغفها بالحياة وتعلقها بتلابيب التميز والدهشة دون التفات للبحث عن أسباب أو دوافع غير البقاء في نعيم الفن والجمال. وبرغم أنها كانت منسية مغمورة إلا أنها استطاعت أن تلفت أعناق الآخرين لاختلافها، وأن نصفق لها كثيرا وهي تضيف في ركب التغيير خطوة تنزع قدمها من قلب السماحة والبساطة لتصل بها لفضاء العالمية. حينما آمن إنسان جازان بنفسه وبقيمة الفنون في حياته استطاع أن يعكس ملامحه علينا، على بقية المناطق، وأن يثبت أن القيود أوهام نفرضها نحن على أنفسنا متى استسلمنا لمخاوفنا التي تعزلنا عن قطف ثمار النجاح أو التنقل في ترف الجمال ومتعته. لقد كانت جازان مثل #عزوز، لكنها اليوم أصبحت أمل ونرجس ومعاذ وأحمد وعلي وحنين وغيرهم من المبدعين في طريقهم للتغير والتميز.