من الناس من هو شجاع في غير حكمة، ومنهم من هو أكثر شجاعة من السابق، لكنه حكيم يعرف متى يقدم ومتى يحجم؛ فهو يقدم حينما يكون الإقدام محسوبًا في صالحه، ويحجم حينما يرى فيه هلاكه، وهلاك من معه، والله تعالى يقول: (ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة)، والتاريخ مليء بالشجعان الحكماء والشجعان غير الحكماء أو الحمقى، والحوادث البعيدة والقريبة تكشف لنا الكثير من المواقف التي يمكن الاستدلال بها على الشجاع الحكيم والشجاع الأحمق.
ومن تلك المواقف ما لا يزال عالقا بذاكرتنا القريبة. ولعل أصدق مثال على الشجاع الحكيم الرئيس أنور السادات، رحمه الله، فقد كان شجاعا حينما بيّض وجه مصر والعرب عامة لما لحق بهم من عار هزيمة 67، وعمل على رد اعتبارهم بمفاجأته لإسرائيل حينما شن عليها ما عرف بحرب العبور، أو حرب 6 أكتوبر عام 1973، واستطاع في وقت قياسي اجتياز خط بارليف وتحرير القناة واسترداد معظم سيناء، ولكنه كان أكثر شجاعة حينما فُتحت عليه جبهة الدفرسوار، والتف الإسرائيليون على خطوط إمدادات جيشه الذي أصبح محاصرا في سيناء، وانقلبت الكفة لصالح إسرائيل التي أضحى باستطاعتها الزحف إلى القاهرة، حينما رأى ذلك، ولاحت له فرصة قبول الهدنة استسلم بكل شجاعة قائلا: "أنا ما أقدر أحارب أميركا؛ لأن أميركا فعلا دفعت بكل ما تستطيع من قوة، ومن تكتيكات الحرب الحديثة إلى جانب إسرائيل". ولو ركب الرئيس أنور السادات رأسه، وقال إما النصر أو الموت لاحتلت القاهرة، ولَدُمِّر جيش مصر، ولما خرج بشيء من مكتسبات حرب 6 أكتوبر.
ومن الأدلة على "الشجاعة في غير حكمة" صدام حسين، رحمه الله، الذي بُذلت له الرغائب أثناء احتلاله الكويت للانسحاب منها، وأعطي الأمان له ولجيشه، لكنه أصر على البقاء، وأنه سيفجّر آبار النفط، وسيعلو دخانها إلى السماء فيحجب الأفق، وتتحول المنطقة إلى عصر جليدي، وكانت النتيجة أن دُمِّر جيشه، ودمّرت عاصمة بلده بغداد، وخرج من الكويت ذليلا صاغرا، وتكرر الحال مع صدام حسين نفسه في حرب 2003 حينما توالت الحشود المتربصة بغزو بلاده، وإسقاط حكمه، إلا أنه ظل مصرا على أنه سينتصر، وأن القوات المتحالفة ضده مصيرها الموت والهلاك، وستكون طعاما للطيور في الفيافي والقفار، وأصرّ على ذلك الموقف حتى اختفائه في صبيحة دخول القوات الأميركية إلى بغداد، ومن ثم قتله، وانفراط العراق الذي لم تقم له قائمة منذ ذلك التاريخ بسبب شجاعة رئيسه غير الحكيمة.
أما في اليمن فلا نجد مثالا للاستشهاد به على شجاعة الاستسلام من الإمام يحيى حميد الدين في حربه مع الملك عبدالعزيز -رحمهما الله- والباعث على تلك الحرب ثلاثة أمور هي لجوء الأدارسة إلى اليمن، وخوف الملك عبدالعزيز من تهديدهم للوحدة الوطنية، واحتلال اليمن أجزاء من نجران، وأيضا الاعتراف بالحدود فيما بين البلدين. هذه الأمور الثلاثة كانت محور الخلاف، وبين العاهلين العظيمين تم تبادل عشرات البرقيات، ولما لم تجد تلك البرقيات نفعا، فضلا عما ظهر للملك عبدالعزيز من عدم جديّة الإمام يحيى في حسم هذه الأمور الثلاثة، وكذا غطرسة الوفد المرسل من قبله برئاسة عبدالله بن الوزير لبحث تلك المسائل مع الجانب السعودي، لذلك دفع الملك عبدالعزيز بجيوشه إلى اليمن من جبهات ثلاث هي جبهة نجران وجبهة عسير وجبهة تهامة التي تمكنت من الوصول إلى ميناء الحديدة، ووصلت جنوبا إلى قرب مدينة زبيد، ولما أحس الإمام يحيى بتلك الهزة الزلزالية العنيفة، وهو الشجاع المشهود له بكثير من البطولات في ميادين القتال طوال حياته، وأدرك بحكمته وبُعْد نظره ألا قبل له ولجيشه بالوقوف أمام قوات ابن سعود الفتية حينذاك، ترجّحت لديه شجاعة الاستسلام في أحسن صورها، فأبرق إلى الملك عبدالعزيز قائلا له: "أيها الأخ كفى ما حصل. وهذا الولد عبدالله بن الوزير عندكم، وهو مفوض عنا لعقد المعاهدة". (العقيلي، المخلاف، ط2,1402، ص)، فتوقفت الحرب، وأجيبت جميع مطالب الملك عبدالعزيز، ووقعت معاهدة الطائف بين الشقيقتين في صفر عام 1353.
استعرضت هذه الأمثلة على شجاعة الاستسلام، وأنا أرقب ذلك الموقف المكابر لكلٍّ من الحوثي وصالح، بزعم الصمود، وهما يعلمان أنهما أمام قوة ضاربة لا يمنعها من نسف صنعاء ومن فيها إلا دينها ومكارم أخلاقها، وحرصها على عدم الإثخان في القتل، وعدم الإضرار بالناس وبالأملاك، والإبقاء على شيء من روابط الأخوة والمحبة وحسن الجوار، ومع ذلك فهما يتماديان في التظاهر بالقوة والصمود، ومواصلة استفزاز المملكة بصواريخهم الباليستية، واختراق حدودها صباح مساء. ذلك في الوقت الذي ما عرفنا لأي منهما مواقف شجاعة لا في ميدان الحرب ولا في صناعة السلم، فالأول -وهو الحوثي- تمرّد عدة مرات على الثاني حينما كان في السلطة، ولا يُعرف من منهما انتصر على الآخر، أما الثاني -وهو صالح- فعرفناه على مدى أكثر من 30 سنة. وكان طوال هذه المدة لا في العير ولا في النفير، ولا يَحُلُّ في ذُرْوَة ولا غارب، وكل أمجاده بناها على الخيانة والتآمر والغدر برجاله القريبين وحلفائه البعيدين. وحينما أراد الله له أن يخرج وفي وجهه بقية من ماء بفضل الله ثم بفضل المبادرة الخليجية أبت عليه تعاسته إلا أن تركسه في ذلك الحلف البغيض فيما بينه وبين الحوثي، وقد لاحت لهما الفرصة عدة مرات لصناعة السلام، وتجنب ويلات الحرب، خصوصا مشروع جون كيري الأخير، فقد أعطاهما كل ما يبغيان، لكن كما يقول الشاعر:
أبَتِ الشَّقَاوَةُ أن تُفَارِقَ أهْلَهَا
وأَبَى الشَّقِيُّ أن يَكُوْنَ سَعِيْداً