بررت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" عدم نشر التقارير السنوية للهيئة بالقول بأن السبب في ذلك يرجع إلى "خضوعها لآلية ولوائح عمل محددة وهي ملتزمة بها، والهيئة لا تمنع تقديم المعلومات لأي شخص، وعدم إتاحة التقرير السنوي للجميع لا علاقة له بشفافية الهيئة، حيث إن الشفافية والوضوح أساس عملها"!

قد أتفهم مبررات "نزاهة" السابقة في عدم نشرها التقرير السنوي بسبب خطورة المعلومات التي تحصل عليها الهيئة، وعدم القدرة على نشرها، لعدم استكمال إجراءات التحقيق وتحويلها إلى الهيئات المختصة، مثل هيئة التحقيق والادعاء العام، وبالتالي عدم الإدلاء بأي معلومات حتى يتم القضاء فيها كاملة، وإلا تعرضت "نزاهة" للمساءلة القانونية، ولكن ليس من المقبول عدم نشر التقارير على الإطلاق، وهذا للأسف الشديد ما ترمي إليه "نزاهة" في تصريح رئيسها إلى الوسائل الإعلامية عندما قالت: "ليس من اختصاص الهيئة التشهير أو إصدار تقارير إعلامية بعد صدور الأحكام على المدانين، ولو كان من اختصاص الهيئة أو كانت للهيئة صلاحية في هذا الجانب فليس لدينا إشكالية، لكن من الناحية النظامية والقانونية فإنه ليس من اختصاص الهيئة، لأنها ليست جهة تنفيذية"!

صحيح أن "نزاهة" ليست جهة تنفيذية وإنما جهة رقابية مستقلة، ولكن لا توجد موانع نظامية أو قانونية تمنع نشر التقارير السنوية للهيئة، وما ذكر عن المتهمين في قضايا الفساد والتشهير بهم، ليس له علاقة بعلانية نشر التقارير كما يحاول البعض ربطه بها مباشرة، فهذا تبرير غير منطقي ويتعارض مع مبدأ الشفافية بل ويتعارض مع الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والتي نصت على "كفالة حرية تداول المعلومات عن شؤون الفساد بين عامة الجمهور ووسائل الإعلام"، فكما هو معلوم دوليا أن الشفافية وعلانية التقارير هي وسيلة فعالة لردع مرتكبي الفساد وإطلاع الناس على إنجازات الهيئة، والسؤال المطروح هنا: لماذا تتنصل "نزاهة" من مسؤولية نشر التقرير السنوي؟

تتضمن المادة الرابعة عشرة من تنظيم "نزاهة" فيما يتعلق بإعداد التقارير، إعداد تقرير سنوي "خلال (تسعين) يوما على الأكثر من تاريخ انتهاء السنة المالية، يتضمن ما أنجزته الهيئة خلال السنة السابقة، وما واجهها من صعوبات، وما تراه من مقترحات، وتقويم وضع النزاهة والفساد في المملكة خلال سنة التقرير، بالإضافة إلى تقارير -حسب الحاجة- عن موضوعات معينة".

وعلى هذا الأساس، يجب أن تتضمن التقارير السنوية لنزاهة نتائج متابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد ورصد نتائجها وتقويمها ومراجعتها، فقد تضمنت هذه الاستراتيجية العديد من الأهداف والوسائل لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة، وبالتالي فإن مثل هذه المعلومات يجب أن تكون متاحة لعموم الناس والإعلام، وقد تكون بدون أسماء المتهمين أو المتورطين في جرائم الفساد، فيمكن أخذ الممارسات فقط كحالات دراسية أو مؤشرات تشكل ظاهرة.

نصت المادة (13) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على "احترام وتعزيز وحماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها، ويجوز إخضاع تلك الحرية لقيود معينة، شريطة أن تقتصر هذه القيود على ما ينص عليه القانون وما هو ضروري، لمراعاة حقوق الآخرين أو سمعتهم أو لحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو لصون صحة الناس أو أخلاقهم"، وعليه فإن "نزاهة" مطالبة بوضع قواعد وضوابط وإجراءات تتعلق بنشر تقاريرها السنوية على العموم.

لا شك أن "نزاهة" ما زالت تواجه العديد من الصعوبات والمعوقات والتي من أهمها عدم وجود محاكم الأموال العامة، وبطء إجراءات التحقيق في قضايا الفساد، بالإضافة إلى الخلل المتعلق بمحاكمة شاغلي المناصب الإدارية العليا، وضعف التنسيق مع الجهات الرقابية الأخرى، ناهيك عن غياب التشريعات القانونية التي تحمي عضو الهيئة، ولكن مثل هذه الصعوبات لا تمنع أبداً من نشر التقارير السنوية، وذلك لمعرفة حجم الفساد وأسبابه وآثاره وكيفية علاجه.

من يزور أو يتابع الموقع الإلكتروني لنزاهة يلاحظ اقتصار المعلومات على أخبار الهيئة فقط والتي لا تتعدى التهنئة في الأعياد والمناسبات والمشاركة في الندوات والمؤتمرات وبعض الدراسات والأبحاث الفردية، وإن كان هناك بيانات أو مؤشرات فهي عبارة عن إحصاءات بسيطة لعدد البلاغات والشكاوى فقط أو عدد القضايا التي تمت إحالتها إلى الجهات المختصة، وهذه المعلومات لا يستفاد منها في الوقاية أو مكافحة الفساد أو حتى على الأقل تقدير مشكلة الفساد.

لا يمكن تفسير تمسك الهيئة بسرية تقاريرها وعدم نشرها إلا بعدة احتمالات، الأول/ أن الهيئة ليس لديها معلومات أو بيانات عن قياس حجم الفساد وأسبابه وآثاره، وبالتالي فإن فاقد الشيء لا يعطيه. الاحتمال الثاني/ أن نزاهة تحولت بالفعل إلى جهاز بيروقراطي كغيرها من الجهات الحكومية والتي تعتمد السرية في جميع أعمالها وأنشطتها. والاحتمال الثالث/ أن نزاهة تخشى النقد وتعتقد أن نشر تقاريرها سوف يؤثر على تقييم أداء مسؤوليها أمام الجهات العليا في الدولة، والاحتمال الأخير/ أن الجهات الحكومية اشتكت نزاهة بسبب تصريحاتها القديمة وتبادل الردود والتهم على وسائل الإعلام والتي تفتقر إلى الأدلة والمستندات الثبوتية.

ومهما كانت الأسباب والمبررات والصعوبات فإن عدم نشر التقارير السنوية لـ"نزاهة" يعني أن "نزاهة" عجزت عن تطبيق مبدأ الشفافية على نفسها فكيف تستطيع تطبيقه على الجهات الحكومية الأخرى؟!