في عام 2009 وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وكانت أصداء تقرير جولدستون لا تزال فاعلة ليقول مخاطباً الحضور: "هل تريدون تأييد إسرائيل أم الإرهاب؟"، ما تعكسه هذه الكلمات القليلة هي حقيقة قوة الخطاب الدبلوماسي الإسرائيلي في كونه خطاباً نجح في تجاوز القنوات الدبلوماسية التقليدية باتجاه تأسيس دبلوماسية عامة لها بعد مؤسساتي، ففي الوجدان العالمي تظل إسرائيل رمزاً للديموقراطية والسلام في منطقتنا التي تعج بالإرهابيين، هذه هي الصورة التي نجحت الدبلوماسية العامة في إسرائيل في رسمها وتثبيتها.
في زمن العولمة وثورة المعلومات بات للقوالب والصور النمطية دور مؤثر في صناعة السياسة والتأثير عليها، وما يتعرض له المسلمون في أوروبا من غلبة الصور النمطية ما هو إلا جزء من هذه التطورات على الصعيد العالمي، فنجاح حملة منع بناء المآذن في سويسرا اعتمدت بشكل كبير على تغليب تلك الصور النمطية وشعار حملتهم الذي حمل علم سويسرا في حين ظهرت المآذن وكأنها صواريخ ما هو إلا دليل على هذا الأمر.
المسألة لا تنحصر إذا في الصراع الدبلوماسي القائم بين العرب وإسرائيل أو في قضايا مثل الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف في الغرب أو غيرها من قضايا تأثيرات الصور النمطية الخاصة بالعرب كدول إرهابية وما إلى ذلك وكيفية تعاملنا مع هذه القضايا، إن الأهم هو فتح باب النقاش حول آليات عمل سياستنا الخارجية بصورة عامة، والبعد المؤسساتي لدبلوماسيتنا العامة.
الدبلوماسية العامة
(Public Diplomacy) في تعريفها البسيط العام المقصود هنا تعني الآليات والبرامج التي تنتهجها الحكومات لتعزيز مصالحها الخارجية من خلال التوعية والإعلام والتأثير على الجمهور الأجنبي ورأيه العام وكذلك جماعات المصالح فيه، وبما يحد من سوء الفهم والتفاهم الذي يمكن أن يعقد العلاقات الخارجية. وللدبلوماسية العامة العديد من الأدوات بدءاً من الأدوات الناعمة مثل التبادل الثقافي والتعليمي والإنتاج الأدبي بكل أشكاله مروراً بالتغطيات واللقاءات الإعلامية والصحفية وانتهاءاً بحملات العلاقات العامة، فعلى سبيل المثال عندما يقوم فنان بجولة في دولة أخرى تحت رعاية حكومته فإن هذا يعد من قبيل الدبلوماسية العامة، وكذلك عندما تؤسس دولة لأدوات وآليات تواصل إعلامي مستمر مع العالم الخارجي فإن هذا يعد من باب الدبلوماسية العامة، ومن ثم فإن الاختلاف الرئيس بين الدبلوماسية العامة ونظيرتها التقليدية هو أنها ليست دبلوماسية قائمة بين حكومة ونظيرتها وإنما بين حكومة وشعب آخر ورأيه العام.
في هذا المجال تبرز الولايات المتحدة كإحدى أفضل الدول في توظيف الدبلوماسية العامة لخدمة أهدافها ومصالحها، ولعل وكالة المعلومات الأمريكية (USIA) أحد أبرز النماذج على إنشاء جهاز متخصص في هذا المجال، وكانت أحد أبرز أساسيات عمل هذا الجهاز هو قيامه برسم خط فاصل بين الدبلوماسية العامة والدعاية السياسية (البروباجندا)، وكان لهذا الجهاز تأثير كبير في مجال السياسة الخارجية للولايات المتحدة وبالأخص خلال فترة الحرب الباردة امتد هذا التأثير غير المباشر ليشمل حتى إدخال الدبلوماسية العامة في برامج تبادل الطلاب مع الولايات المتحدة.
الدبلوماسية العامة للولايات المتحدة ساهمت كثيراً في صنع الصورة القوية للولايات المتحدة اليوم على الصعيد العالمي، وأي سياسة خارجية فعالة اليوم يجب أن تستند إلى الدبلوماسية العامة كإحدى أدوات الفعل السياسي، حيث باتت القطاعات الأخرى غير السياسية مثل الإعلام والفنون والتعليم وغيرها إحدى ساحات اللعبة السياسية وهو ما يستدعي مراجعة الأدوات السياسية التي يتم توظيفها (Political tools).
المملكة لها عدد من التجارب في توظيف الدبلوماسية العامة بشكل مباشر في سلة أدوات سياستها الخارجية، ولعل أبرز مثالين يمكن ذكرهما في هذا الشأن هما حملة العلاقات العامة التي قامت بها المملكة ممثلة في سفارتها في واشنطن في أعقاب أحداث 11 سبتمبر وهي الحملة التي نفذتها شركة العلاقات العامة الأمريكية "كورفيس" (Qorvis)، ودون الولوج في تفاصيل تلك الحملة وما كان بالإمكان تحسينه فيها فإن الحملة أثبتت نجاعتها بصورة عامة وأكدت على إمكانية توظيف مثل هذه الأداة في خدمة مصالحنا وسياستنا الخارجية، والمثال الثاني والأبرز هو حوار الملك عبدالله مع الصحفي توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 17 /2 /2002 والذي أعلن فيه الملك عن إعداده لمشروع مبادرة السلام العربية، لقد أطلقت تلك المقالة بالطريقة التي قام الملك فيها بإثارة الموضوع موجة من النقاش العام حيث قام عدد من الشخصيات السياسية بالتعليق على الموضوع بما فيهم الرئيس بوش في حينها والأمين العام للأمم المتحدة، حتى مبعوث الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا قام بزيارة المملكة لمقابلة الملك ومناقشته في خطابه الذي يزمع إلقاءه حول المبادرة كما قامت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحيتها بالإشادة بهذه المبادرة، كل هذا تم وخطاب الملك الذي يتضمن المبادرة لم يغادر درج مكتبه وكل ما كان معروفاً عنها هو ما كتبه توماس فريدمان في مقاله.
بحسب ورقة أصدرها مركز القدس للشؤون العامة (Jerusalem Center for Public Affairs) في إسرائيل بتاريخ 4 /3 /2002: "من النادر في الدبلوماسية الدولية أن يعطى هذا القدر من الرصيد لحكومة واحدة لأجل مبادرة سلام لم يتم حتى إعلانها أو تقديمها" وتضيف ورقة المركز أن الحكومة السعودية نجحت في جذب الرأي العام العالمي حول المبادرة التي لم تولد بعد، وبدلاً من النظر للسعودية من منظار الإرهاب بات ينظر لها على أنها صانعة سلام (peace-maker).
مثل هذا الأمثلة تبرز وبقوة قدرتنا الكامنة على الاستفادة القصوى من أدوات الدبلوماسية العامة في سياستنا الخارجية عندما تدعونا الحاجة لذلك، ولكن في المقابل تُبرز أمثلة أخرى مثل ما ذكره كاتب هذه السطور في مقاله السابق حول الفرصة الضائعة للتعامل مع قضية منع بناء المآذن في سويسرا غياب البعد المؤسسي للدبلوماسية العامة في سياستنا الخارجية. حتى الآن تظل أمثلة نجاحاتنا على صعيد الدبلوماسية العامة أمثلة منفردة لا تعكس وجود هذا البعد المؤسسي للدبلوماسية العامة، وهو الأمر الذي يستدعي مراجعة آليات عمل وزارة الخارجية بما يضمن إدراج الدبلوماسية العامة ضمن هيكل الوزارة وضمن أدوات الفعل السياسي على مستوى الوزارة وعلى مستوى بعثاتنا في الخارج.