هناك رمزية في "مؤتمر الأدباء السعوديين" الذي تُفتَتَح دورته الخامسة برعاية ملكية كريمة مساء اليوم، مردُّها إلى دورته التأسيسية الأولى، وإلى صيغته المعنونة له المتوارثة عن تلك الدورة.
انعقدت أولى دورات هذا الحدث الأدبي الثقافي عام 1394 هجري، في مكة المكرمة، برعاية جامعة الملك عبدالعزيز. فكانت حدثا لافتا في لحظته التي كان الاجتماع تحت اسم "مؤتمر" ولمجموعة يوصفون بـ"الأدباء" ونسبه إلى "السعوديين" دلالات ذات جدة وأهمية لأهل الأدب والثقافة، ولعامة السعوديين.
فلم تكن المؤتمرات حينذاك مألوفة في شأن الأدب والثقافة، ومن قِبَل الأدباء أنفسهم. وكان الأدباء السعوديون المؤتمِرُون في تلك الدورة، هم الرواد من الأدباء، وأكثرهم الشعراء، وبعض المؤرخين، وطليعة الأكاديميين السعوديين الأول الذين رادوا التدريس الجامعي والدراسات الأكاديمية في الحقل الأدبي والثقافي، إضافة إلى عدد من الأكاديميين والنقاد الأشقاء من بعض الدول العربية.
وما تزال الصور غير الملونة لتلك الدورة، التي تُنْقَل عن بعض الصحف أو الكتب، ترينا نحن الذين كنا أطفالا أو مراهقين في ذلك الزمن، وبعضنا لم يولد بعد، أولئك الرواد ومعظمهم في رونق الشباب وخيلائه، وقليل منهم على أعتاب الشيخوخة.
ولذلك فإن اسم المؤتمر الذي سُمِّي به، ووُسِم عدديا بـ"الأول" في تلك الدورة، يحمل ظلال لحظتها التاريخية تلك، وما تستجيشه في عاطفة الأجيال الشابة من الأدباء والمثقفين وخيالهم وأحلامهم. وهذه رمزية لاسم المؤتمر تزيد في دلالته على موضوعه وحدثه، كما تزيد كل دلالة رمزية بما تحمله رمزيتها من ظلال وهالات.
لم تكن الأندية الأدبية نشأت، حين انعقدت دورة المؤتمر في ذلك الزمن، ولم تكن للأدب مؤسسة رسمية مختصة في شؤونه وشؤون الثقافة غير ما يلقاه من رعاية الجامعات ومؤسسات التعليم العام، حيث تغلب منطقة التداخل مع "التعليمي" و"التربوي" المأسورة –في سياقنا- إلى التقعيد والنمذجة.
وكان الاهتمام المعرفي بالأدب ونصوصه وقضاياه، لا يفترق عن اهتمام الأدباء المنشئين له، في غلبة التقليد والتقويم الانطباعي، والبحث أحيانا عن "أصالة محلية" بلغة غاضبة قرأناها عند محمد حسن عواد وعزيز ضياء –مثلا- في استنكارهما لطغيان الاحتذاء والمحاكاة.
ولذلك كان تنظيم "الجامعة" لمؤتمر الأدباء في دورته الأولى وجها من وجوه الأهمية التي تتضاعف في السياق التاريخي لتلك الدورة، من حيث الدلالة المفترضة للجامعة على الأسئلة المنهجية المعرفية في توصيف الأدب، وتقويمه، وتعميق الوعي به. وهي الأسئلة التي تتصارع مع الضلالات الأدبية في الساحة وحتى في الجامعة نفسها.
ولن يكتمل إدراكنا لما يكْمُن في "مؤتمر الأدباء السعوديين" من هالات وإيحاءات، من دون أن نلتفت إلى الصيغة التركيبية لعنوانه، التي تحمل في انتقاء مفرداتها، وفي جملة عبارتها، دلالات تفخيم له، وشهادة، وإنماء.
فكلمة "مؤتمر" التي نفهم منها معجميا، الدلالة على الاجتماع للتشاور والبحث في أمر ما، تضفي أهمية وخصوصية على موضوع الاجتماع، والمتشاورين والباحثين فيه. فعلى الرغم من وفاء دلالات: الاجتماع واللقاء والمنتدى والندوة... وأمثالها، بمعنى حضور أفراد من أجل التشاور والبحث، فإنها أقصر مما تبلغه دلالة "مؤتمر" من تفخيم للمجتمعين ولموضوع اجتماعهم، سواء بالمفهوم الاصطلاحي المستعمل للكلمة، أم بمادتها اللغوية التي تدلل على الأهمية باشتقاقها من "أمر".
وإذا أضفنا إلى ذلك كلمة "الأدباء" فقد خصصنا المؤتمر بمن يتشاركون حرفة الأدب، ويبحثون في ظواهره ومشكلاته. وبذلك تغدو كلمة "الأدباء" هنا دلالة شهادة وإقرار بصفة الأديب للمشاركين في المؤتمر، وبانعقاد المؤتمر ممن صفتهم "الأدباء". و"الأديب" صفة جامعة لذوي العلاقة بالأدب الذي يغدو –في عمومه- معنى للثقافة الرفيعة في المجتمع، على اختلاف الأجناس الأدبية والمعرفة المختصة فيها، وعلى اتساعهما.
ثم يبلغ عنوان المؤتمر بنسبة الأدباء المؤتمرين فيه إلى "السعوديين" الدلالة على الهوية الوطنية لموضوعه، بحيث يكون المؤتمر موجَّها إلى ما من شأن هذه النسبة الوطنية أن تقتضيه، في دراستها له، وفي بحثها عنه، وتشاورها بشأنه. وليس من مقتضى ذلك –بالطبع- الدلالة على هوية المؤتمرين، فقد حفلت دورات المؤتمر الماضية بعديد الباحثين والدارسين من دول عربية شقيقة، كان لهم اهتمام بموضوعات الأدب السعودي.
هكذا أصبح "مؤتمر الأدباء السعوديين" اسما تاريخيا معبَّأ بالرمزية لحدثه الأول، ومشحونا بفخامة مفرداته الواصفة وتخصيصها. وهي فخامة رمزية وتاريخية اكتسبها حدثُه من اسمه، على الرغم مما تلتبس به تسميته من تضارب دلالتها المدنية والأهلية في إضافته إلى "الأدباء" مع صفته الرسمية لأن تنظيمه قديما وحديثا يصدر عن جهات حكومية. لكن المشكلة التي تلازم دورات المؤتمر، تكمن في عدم الإفادة منه في إضاءة معوقات الحركة الأدبية، والكشف عن مشكلاتها وأزماتها المؤسسية. فأصبح المؤتمر من هذه الناحية شبيها بالندوات والملتقيات حول قضايا الأدب والثقافة السعودية، التي تنظمها الأندية الأدبية، والأقسام الجامعية، والجمعيات العلمية، وكراسي البحث، والصالونات الأهلية.
لم تفد وزارة الثقافة، الجهة الراعية للمؤتمر في دوراته الثلاث الأخيرة، والمسؤولة مؤسسيا عن الأدب والأدباء، من دورات المؤتمر ما يرتقي بمسؤوليتها الإدارية، أو يترامى بها إلى خطط وأنظمة ولوائح وأبنية مؤسسية أكثر فاعلية ورحابة، وأدل على أخذ مهمة الأدب والثقافة من منطلق المسؤولية والطموح لا من واقع الموظفين التنفيذيين.
وليست مسألة تخلفنا المؤسسي في شأن الإنهاض للحركة الأدبية عصية على الكشف، فالمقارنة السريعة بيننا وبين ما يحدث في بعض الدول العربية الشقيقة صاعقة. لا يوجد لدينا –مثلا- مركز وطني للترجمة ينهض بمثل مشروع ترجمة ألف كتاب، ولا ما يشبه سلسلة "عالم المعرفة". وليس لدينا دوريات أدبية وفكرية عالية المستوى، ذات قاعدة مؤسسية مستقرة لا يؤثر فيها تغير هيئة تحريرها بين فترة وأخرى، كما هو الحال في دوريات الأندية.
وقد أخفقت الوزارة، بكل أسف، في إعادة "جائزة الدلة التقديرية للأدب" لتكون ضمن أبرز أحداث المؤتمر. والإحساس بإخفاق الوزارة في شأن الجائزة يتضاعف أمام تسابق بعض الأندية الأدبية والمؤسسات الأهلية في منح جوائز ذات قيمة وبانتظام دوري.
إن الحاجة إلى جهد وزارة الثقافة في تنظيم مؤتمرات أو ملتقيات للأدباء والمثقفين، ليست حاجة علمية أو أكاديمية في المطلق، وإلا انتظمت الوزارة في مضمار المنافسة مع الجهات المختصة بهذه المهمة وهي ليست قليلة، وكان عليها –عندئذ- أن تجد من التبرير لوجهتها تلك ما يزيد على اهتمام الجهات المختصة علميا أو يختلف عنها.
الحاجة إلى الملتقيات والمؤتمرات الأدبية التي تنظمها الوزارة، حاجة إلى اكتشاف سُبُل التطوير لجهدها في إدارة الثقافة والإسهام في تطوير الحركة الأدبية. فإذا لم تنعكس في هذه الملتقيات هذه الرغبة والمسؤولية، فإن الوزارة تبرهن على اصطفافها في مقام "الموظف" لا في مقام "المثقف" ذي المسؤولية والطموح، وهذه كارثة.