في إحدى الجلسات الخاصة حضرت نقاشاً حامياً عن "حدّ الرّدّة في الإسلام"، وكانت الأصوات عالية والنفوس متشاحنة والحجج لافتة، فكل واحد من الجالسين يرى أن الحق معه وحده على اعتبار أن أدلته دامغة وحججه قوية، لكن الآخرين مكابرون لا يبحثون عن الحق والحقيقة بقدر ما أنهم مرضى نفوس وأصحاب هوى! وهو لا يدري أن الآخرين ينظرون إلى أنفسهم كما ينظر هو إلى نفسه، ويرونه بذات المنظار الذي هو يراهم من خلاله، فكان أحدهم يقول: إن حد الردة في الإسلام شائع عند المسلمين، وهو – إجمالاً- رأي جماهير أهل العلم من السلف والخلف، وعليه الفتيا وعمل المسلمين عبر العصور، ومن ثبتت ردته عند القاضي، فالأصل أنه يقتل لما ورد في صحيح البخاري "من بدل دينه فاقتلوه"، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، مع التأكيد على أن الأحناف لا يرون قتل المرأة المرتدة، كما أن أبا بكر الصِّديق ـ رضي الله عنه ـ قد حارب المرتدين من قبائل العرب التي ارتدت في أواخر حياة النبي ـ عليه السلام ـ وبعد وفاته، وتركوا الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين، حتى خاف المسلمون بطشهم، وأخفوا عبادتهم، فأعلن أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ العزم على قتالهم، وقال "واللهِ لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاتلتهم عليه"، وقد عُرفت هذه الحرب فيما بعد بـ"حرب المرتدين".

فقاطعه الآخر قائلا: لم ينعقد الإجماع قط في مسألة حد الردة، ومن المعروف أنه في العقائد لا فرق بين الرجل والمرأة في الأحكام، لكنهما يختلفان في المسائل الفقهية، وكون الأحناف لا يَرَوْن قتل المرأة المرتدة فهو دليل على أن الردة بحد ذاتها ليست حداً موجباً للقَتل، إلا إذا اقترنت بفعل آخر، ولأن المرأة غالباً غير محاربة تم استثناؤها من هذا الحكم، كما أن مسمى "حرب المرتدين" بهذا الاسم ليس دليلاً كافياً على أن سبب قتالهم هو الردة فقط، فلو كان الأمر كذلك لاكتفى الصِّديق بقتال المرتدين دون غيرهم، ولمَاَ قاتل المسلمين الذين امتنعوا عن دفع الزكاة متأولين – جهلاً - قول الله تعالى "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم"، حيث فهموا أن الخطاب كان موجهاً للنبي ـ عليه السلام ـ دون غيره، وبوفاته ليسوا ملزمين بدفعها إلى أحد سواه! وعلى الرغم من إسلامهم إلا أن الصِّديق قاتلهم لخروجهم على نظام دولة، وامتناعهم عن دفع الزكاة وحملهم السلاح؛ لا لمجرد ردتهم كما يتوهم البعض، ولو أن أحداً في عصرنا هذا خرج على نظام الدولة أو هَمَّ بالانفصال عنها لتم إخضاعه بالقوة وإرجاعه للنظام ولو أدى ذلك إلى مقتله، كما أن أحداً من الصحابة أو التابعين لم يذكر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قتل أحداً لمجرد ردته، ما لم يكن محارباً أو اقترنت ردته بفعل آخر، فالبعض قد أعلن ردته أمامه عليه السلام، ومع ذلك لم يهدر دمه أو يرسل أحداً في طلبه، بل إن النبي ـ عليه السلام ـ قد فرَّق بين المرتدين عند فتح مكة، وقَبلَ شفاعة عثمان ـ رضي الله عنه ـ في عبدالله بن سعد بن أبي سرح، ولو كانت الردة حداً موجباً للقتل لما فعل النبي ذلك، كما أُثر عن الفاروق ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يكن يرى أن حد المرتد هو القتل، علاوة على أن القرآن الكريم قد أكد بشكل واضح على حرية المعتقد فيما يقارب الـ(200) آية كما يذكر الشيخ محمد الغزالي، والآيات في ذلك لا حصر لها وأشهر من أن تُذكر، إضافة إلى أن القرآن الكريم حين تحدث عن حد الردة لم يذكر عقوبة دنيوية مترتبة عليها، فهل من المعقول أن الله تعالى لم يذكر آية واحدة يبيِّن فيها هذا الحد المتعلق بدماء الناس، وهو الذي بيَّن ما دون ذلك من المسائل! وهل من المنطق أن نرُد عشرات الآيات المؤكدة على حرية المعتقد بحديث آحاد واحد، ثم إنه أليس من الأولى أن نؤول الحديث بما يتناسب مع فهمنا للآيات، بدلاً من العكس.

دخل شخص ثالث على الخط، وقال: سأناقش هذا الأمر من الناحية العقلية، أليس أكبر المستفيدين من حد الردة اليوم هم أصحاب التكفير والضلال، ولو علموا أن الردة في حد ذاتها ليس عليها عقوبة دنيوية، لما وجدوا فائدة من استحلال دماء الناس وتحريض الشباب على القتل، ثم أيهما أحق بالعفو والصفح؛ رجل صدق المسلمين ولم يخدعهم، فجهر بخروجه من الدين علانية أمام الناس، أم منافق أظهر الإيمان وأبطن الكفر، فهل من العدالة أن نعاقب الصادق، ونثيب الكاذب، ثم ماذا سيستفيد الإسلام من إيمان شخص لم يمنعه من إعلان كفره سوى الخوف من حد السيف، ومن الناحية الإنسانية؛ أليس الأرحم بالناس أن يُترَك أمرهم إلى الله، فلعلهم تابوا وندموا وعادوا إلى الدين فحسن إسلامهم بدلاً من قتلهم وإرسالهم مباشرة إلى النار، فقبل أشهر وبعد مغادرة آخر فلول داعش مدينة منبج السورية قام الرجال بحلق لحاهم، كما قامت النساء بكشف وجوههن وتدخين السجائر، فالإيمان الذي يأتي بدافع الخوف من الناس سيذهب بزوال أسبابه، على العكس من الإيمان الراسخ الذي يأتي بدافع الخوف من الله فهو لن يتزعزع، وسيكون صاحبه على استعداد للتضحية بنفسه من أجله، فصدق الشيخ محمد الغزالي حين قال "الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن".