في قراءة التطورات السياسية التي تجري من حولنا، ليس هناك ما هو أصدق من مقولة "التاريخ لا يعيد نفسه". وكما في مياه النهر، لا يمكنك العوم بنفس الماء في ذات المكان مرتين. فإن الزمن لا يمكن القبض عليه، لأنه حالة متجهة بسرعة البرق إلى الأمام. ولذلك ترفض الحياة السير وفق تراتيبية محددة. وفيما هو إنساني، فإن الجديد دائما هو تحت الشمس. لقد شهد التاريخ الإنساني، بزوغ حضارات وإمبراطوريات وسقوط أخرى، في دورات متعاقبة، لكن أي من تلك الحضارات التي قدر لها أن تبعث من جديد، لم تحتفظ بخصائصها السابقة، ولم يكن حضورها الجديد استنساخا لمجدها الغابر، بل كان ولادة جديدة، حملت إرث الماضي، معضدا بتراكمات التاريخ، وصخبه وإبداعاته.
ما جرى بالعراق، عام 2003م، جاء في مرحلة أضحى فيها الاستعمار التقليدي شيئا من الماضي، بعد أن أصبح الإقرار بالاستقلال والسيادة وحق تقرير المصير، من المسلمات البدهية في القانون الدولي وشرعة الأمم. وكان العدوان الأمريكي على العراق، الذي انتهى باحتلاله، خروجاً صريحاً على المؤسسات والقرارات الدولية، ومن ضمنها مجلس الأمن الدولي الذي رفض تفويض الإدارة الأمريكية بالحرب على العراق. لذلك يشكل حضور القانون القطعي لمقاومة الاحتلال، في أرض السواد، تعبيرا عن تماه أصيل مع روح العصر، وانسجاما مع حق الشعوب في مقارعة الظلم والكفاح لنيل الحرية، ودفاع مشروع عن الاستقلال والسيادة. قد كان الكفاح التحرري من أجل الاستقلال في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أحد الظواهر البارزة التي رسمت صورة القرن المنصرم.
القراءة الموضوعية للأزمة السياسية المستعصية في العراق، التي تناولنا بعض مقدماتها في الحديث السابق، تحت عنوان هل انتهت أزمة العراق السياسية، ينبغي أن تتم من خلال وضع الاستعمار التقليدي في إطاره التاريخي، الذي قدمنا له في هذا الحديث. فالذي حدث بأرض السواد، من قبل الأمريكيين وأعوانهم هو فعل خارج التاريخ، وبالضد من قوانين التطور، ونكوص عن الإنجازات التي حققتها البشرية بعد الحرب الكونية الأولى، وجرى التعبير عنها علنا في صيغة إعلانات ومبادئ ومواثيق منذ ذلك التاريخ، بدءًا من مبادئ ويلسون الأربعة عشر، إلى ميثاق عصبة الأمم، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واستمرارا لصدور ميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب الكونية الثانية، والملاحق التي أضيفت له فيما بعد.
الأزمة السياسية المستعرة في العراق الآن، هي إذن إحدى إفرازات الاحتلال الأمريكي للعراق. إنها الوجه الآخر للتدمير المنهجي للدولة الوطنية العراقية. وهي أيضا في القلب من استراتيحية الهيمنة الأمريكية، الهادفة لتعميم ثقافة تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، بالبلدان العربية. ولوضع هذه الثقافة موضع التنفيذ، لا بد من رموز، محلية وإقليمية تتفاعل مع مخطط التفتيت، وتضطلع بتنفيذه، من خلال بعث هويات ما قبل التاريخ. وكان الشعار الذي طرحته إدارة الاحتلال، في هذا السياق، هو اللامركزية والنظام الفيدرالي. والتعبيران، رغم محاولة تلميعهما، وإبرازهما كخطوات لازمة لصناعة العراق الجديد، فقد تكفلت الأحداث اللاحقة، بإزاحة احتمالات الشك والمراجعة، وكشفت النوايا الحقيقية، التي وقفت خلف هذه التعابير.
لقد هدف الاحتلال لمصادرة العراق كيانا وهوية، وإبعاده عن محيطه العربي والإسلامي، وتفتيته إلى كانتونات تؤسس وفقا للقسمة بين الطوائف. وفي هذا الاتجاه، جرت عمليات إقصاء متعمدة لكل المحاولات العربية، لتحقيق المصالحة الوطنية بين العراقيين، وإعادة الأمن والاستقرار لربوع هذا البلد المثخن بالجراحات والمحن. وهكذا وجدت مبادرة الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى، ومحاولات مصر والأردن وعدد آخر من دول الخليج الأبواب موصدة أمامها، وبقيت عاجزة عن تقديم أي شيء لتخفيف معاناة العراقيين. يجري ذلك، بينما تفتح الأبواب لمن هب ودب، من الشرق والغرب للتدخل في شؤون العراق الداخلية، ولتتسلل رياح السموم الصفراء لكل بقعة فيه، من شمال زاخو إلى جنوب البصرة، في حين تعتبر محاولات الأشقاء العرب لتخفيف معاناة العراقيين، الذين تربطهم بنا حقائق التاريخ والجغرافيا والدين والجوار والمعاناة المشتركة تدخلا مباشرا في شؤون البلاد الداخلية. ولم تكن محاولة اختطاف مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الأخيرة، إلا استمرارا لسياسة إبعاد العراق عن محيطه العربي والإسلامي، وهو الوجه الآخر، لاختطاف عروبة العراق.
وتحرير العراق، لن يتم بمجرد إصدار صك وهمي، يعلن فيه المحتل سحب قواته من بلاد ما بين النهرين، تاركا مصيره وأقداره في مهب الريح، أو من خلال منح وثيقة استقلال مزيفة، تستعيض عن الاحتلال، الساكسوني الهادف للتفتيت والسيطرة على الثروة، بآخر ساساني، تعشعش في أعماق أعماقه ذهنية الانتقام والكيد من التاريخ، وروح الثأر من قادسية عمر بن الخطاب.
تحرير العراق، يقتضي في أبسط أبجدياته سقوط الاحتلال وإفرازاته وتداعياته ورموزه. وأن يترك الأمر للعراقيين ليقرروا شكل الحكم في بلادهم، وأن تلغى كافة القوانين واللوائح والإجراءات والأحكام التي ارتبطت بوجود الاحتلال، بما في ذلك الدستور المعتمد على قسمة الطوائف، وتوزيع المناصب والمغانم بين شيوخ الطوائف والكتل التي تمثلها.
والحديث عن المصالحة الوطنية، لن يكون دقيقا ومسلما، إن لم تفتح أبواب السجون لعشرات الألوف من المعتقلين السياسيين، الذين قبعوا في معتقلات الاحتلال لأكثر من سبع سنوات، لا لذنب اقترفوه، سوى معارضتهم لهتك الأعراض وانتهاك الحرمات ومصادرة هوية بلادهم وحريتها وكرامتها وعروبتها. ليس ذلك فحسب، بل من خلال إعادة الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة للعراقيين، والاعتراف بالأمة العربية عمقا استراتيجيا لأرض السواد، كما هو أرض السواد عمق حقيقي، وجناح شرقي لكل أمة العرب.
ولا جدال، في أن القوى الوطنية العراقية، التي رفضت التعاون مع المحتل، وواجهت مشاريعه، التي عملت على النيل من التاريخ المجيد لهذا البلد العريق، هي المهيأة لأن تلعب الدور الأساس في صناعة مستقبل العراق، في مرحلة ما بعد الاستقلال. وعودة العراق، إلى الخيمة العربية، ليساهم مع أشقائه العرب في مسيرة النهضة، تقتضي أن يقوده أشخاص لم تتلطخ أيديهم بقتل العراقيين، والقضاء على الدولة الوطنية المعاصرة. المشاريع الوطنية يقودها الوطنيون وحدهم، وليس فيها مكان لمن سرقوا العراق وهتكوا أعراضه، واعتدوا على تاريخه. والحل يكمن في إلغاء ما تمخض عن الاحتلال جملة وتفصيلا، وأن يكون العراقيون أسياد أنفسهم.