تشومسكي معروف جدا في الساحة العربية. عالم اللسانيات والناقد الكبير للسياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. في المقابل شخصية مهمة أخرى لا تحظى بذات الحضور هي شخصية الكاتب الإسرائيلي قيدون ليفي Gideon Levy صاحب كتاب "عقوبة غزة" The Punishment of Gaza وهو الكتاب الشهير الذي انتقد فيه وبشكل جريء ومثير جرائم الجيش الإسرائيلي في غزة شتاء 2008. قبل شهرين حضر ليفي إلى نيويورك في جولة تعريفية بكتابه ألقى فيها عددا من المحاضرات التي أوضح من خلالها رؤيته النقدية الجريئة لمجمل ما يجري في إسرائيل. ليفي يعتقد أن إسرائيل هي بلد يسيطر عليه العسكر وسياسيون لا يفكرون في السلام ويقودون البلد والمنطقة إلى خطر كبير. الجيش الإسرائيلي، بحسب ليفي، ارتكب مجازر مخزية ذهب ضحاياها الكثير من الأبرياء ولا بد من العمل بكل طاقة ممكنة لتوعية الناس عن حقيقة ما يجري وهذا هو هدف كتابه الأساسي. هدفه الفضح والكشف والتعرية، هدفه مقاومة الآلة الدعائية والانتصار للإنسان من جديد. ليفي من مواليد تل أبيب من مهاجرين ألمانيين، حاصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة تل أبيب. في شبابه كان ليفي معبرا عن الخطاب السياسي والديني السائد في إسرائيل ولكنه مع الوقت بدأ في التفكير بشكل حر ومستقل ليشكل وجهة نظر نقدية صريحة تجاه مجتمعة وثقافته الخاصة أو تجاه ذاته الأولى ليحصل على كره داخلي وإعجاب خارجي فقد وصفته الإندبندنت البريطانية بالصحفي الإسرائيلي البطل ووصفته الليموند الفرنسية بالشوكة في الخاصرة الإسرائيلية. في الداخل الاسرائيلي يعتبر ليفي أنه داعم للأصولية الإسلامية في فلسطين ولبنان وأحد الطاعنين في قلب البلد.
في حوار مع صديق يهودي أمريكي حول تشومسكي وليفي ذكر لي أنهم يصنفون في أوساط المحافظين اليهود في أمريكا بأنهم "كارهون لذواتهم" أي إنهم يعانون من أزمة مرضية تجعل منهم يكرهون كل ما ينتمي لثقافتهم ومحيطهم الخاص. يصنفون على أنهم مرضى بالكره لذواتهم لا أقل ولا أكثر. مباشرة أعادتني هذه العبارة إلى السياق العربي الثقافي حيث تصف هذه العبارة بدقة المشهد العام وتعامله مع النقد الذاتي. أي كيف يتم استقبال النقد الذاتي في الثقافة العربية خصوصا من التيارات السياسية والدينية صاحبة السيطرة على الفضاء العام. الموقف العام هو نفي هذا النقد ليس باعتباره خاطئا فقط بل باعتباره مرضا، باعتباره ضدا معاديا، إلا أن المعادلة لا تكتمل في الساحة العربية إلا بفهم معادلة السلطة فالتيارات السياسية الحاكمة والدينية المهيمنة هي تيارات سلطة، أي إنها تيارات شكّلت قوانين الدولة والمجتمع وتتمتع بالقوة. أي إنها ليست تيارات فكرية مخالفة تتحرك في سياق الجدل والاختلاف الفكري والثقافي ولكنها تيارات سلطة تمارس دورها لا بأدوات فكرية فقط بل بالقوة.
المثقف العربي الناقد الجذري للسياقات الدينية والسياسية هو تحت رحمة هذه السياقات في ذات الوقت باعتبارها السياقات التي تتحكم في كل ما حوله وإن حظي بمساحة معينة من حرية القول فهو يعلم أنه في حالة خطر مستمرة باعتبار أنه متيقن أن هذه السلطات النافية له تخفف الوطأة عليه نسبيا نتيجة لحسبتها الخاصة ولا تفتأ تذكره باستمرار بأنها ضده وتلوح له باستمرار بقدرتها لا على الرد عليه بل بقدرتها على منعه من الكلام، منعه من النشر، منعه من التعبير في الفضاء العام. أي إنها تراهن باستمرار على وجوده كإنسان حر يتمتع بحق ثابت في التفكير والتعبير. أي إن مبدأ وجود الناقد العربي الجذري في يد السلطتين السياسية والدينية يتمتع بجزء بسيط منه أحيانا ولكنه يعلم يقينا أن وجوده في يد نافية رافضة له.
سئل ليفي في محاضرة له في نيويورك هل يواجه مشاكل في النشر في إسرائيل فأجاب بالنفي وأنه ينشر ما يريد بدون مضايقات. هنا تفترق الطريق بين الناقد العربي والإسرائيلي فمبدأ وجود الناقد الإسرائيلي ثابت. حقه في النقد والتعبير محفوظ وليس عرضة لحسابات سياسية مؤقتة. في المقابل يبقى الناقد العربي فردا وحيدا يقابل مؤسسات ليست له. فهي إما أن تشكل الفضاء العام لرفضه أو أنها تقوم باستغلاله لتحقيق أهداف مؤقتة سيكون هو ضحيتها الأولى. لاحظ هنا أننا نتحدث عن مبدأ الوجود وليس درجاته. هناك أصوات دينية منفية أيضا ولكن نفيها يختلف من جهة المبدأ عن نفي المثقف. نفي الصوت الديني لا يتم في مبدأ فكره بل في هامشه. أي منفي مع احتضان في ذات الوقت. جوهر فكر المنفي الديني مقبول وهامش فكره مرفوض أحيانا. في المقابل المثقف اللامنتمي للسياق الديني والسياسي جوهر فكره مرفوض وهامشه مقبول أحيانا.
هنا تتضح حال العقل النقدي العربي، فهو في كثير من أحيانه لديه اختلاف جذري مع الواقع المحيط به، لديه مشكلة مع المبادئ والأسس والمسلمات وفي الوقت ذاته فهو لا يملك طمأنينة على مبدأ وجوده وحقه الأساسي. أي حريته. من يستطيع اليوم أن يعطي ضمانا قانونيا حقيقيا للفرد العربي الناقد؟ فالمؤسسات العامة المحيطة به تأسست ضد مبدأ وجوده. مؤسسات لم تتأسس على مبدأ حرية الفرد بقدر ما تأسست لحماية السلطة والفكر الجمعي. العقل النقدي العربي عقل مشلول بمعادلة السلطة التي تحيط به، حتى المثقفون المقيمون في أوروبا وأمريكا يخضعون لذات المعادلة باعتبار أنهم لا يستطيعون الوصول للقارئ العربي إلا من خلال السلطة ذاتها الممسكة بالإعلام ومنافذ التعبير والرأي. ومن هنا تأتي مهمة العقل العربي الأساسية وهي أن يؤسس للحرية، حرية التفكير والتعبير، حرية القول في الفضاء العام، حرية النقد. حين تتحقق هذه المبادئ يمكن لنا أن نقول إن العقل النقدي العربي بدأ في الحضور.