حالة فردية..جملة تتردد كلما وقعنا في مصيبة من النوع العابر للقارات والذي يضع بلادنا وديننا وعاداتنا تحت المجهر المكبر. تريدون بعض الأمثلة؟ فاطمة ومنصور وطلاق النسب، برجس وجوالات الكاميرا، غصون وشرعاء ورهف وأخواتهن من الأطفال الذين نحروا أو عذبوا على يد أهاليهم، رانيا الباز وقضايا العنف الأسري ضد الزوجات، فتاة المدينة وقضايا العضل، فتاة القطيف وابتزاز الشباب للفتيات وقضايا الاغتصاب. كلها كانت حوادث فردية لا تستحق كل هذا الضجة الإعلامية، وعلينا التركيز على قضايا أهم مثل البطالة، حتى لو كنا نتحدث عن أرواح أزهقت. وإذا كنا نستكثر عليها الاهتمام الإعلامي، فمن باب أولى أن نستكثر عليها وبشدة أي مراجعة للقوانين والتنظيمات الإدارية، فهي في النهاية حالات فردية. وستدخل قضية" خادمة المدينة" الأخيرة تحت هذا البند أيضاً.
في حقيقة الأمر فإن هذه القضايا لم تكن يوماً فردية، ونحن نعرف ذلك جيداً، وحتى لو كانت فردية فإن عدم اتخاذنا لقرارات رادعة وشجاعة حين تقع هذه الحوادث سيضمن لنا بشكل مؤكد تكرارها. وقد شاهدنا كيف أن قضايا طلاق النسب قد انفرطت مثل عقد المسبحة بعد قضية فاطمة الشهيرة، وكذلك قضايا العنف الأسري، وقضايا الابتزاز والتشهير. ونحن نعرف أيضاً بأن قضايا تعذيب الخادمات أو قتلهن ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. وأستطيع القول إننا فشلنا بامتياز في التعاطي مع هذه القضية محلياً سواء فيما يخص الجانب الإعلامي منها أو حتى القانوني والتشريعي، وهاهي الآن تحولت إلى قضية تسبب لنا حرجاً دبلوماسياً مع دولة صديقة وشقيقة مثل إندونيسيا. وإذا ما انضمت لها دول أخرى مستقبلاً مثل سريلانكا أو الفلبين أو الهند مع بعض المنظمات الإنسانية والحقوقية العالمية فإنها ستتحول إلى قضية دولية قد تعرضنا لجزاءات وعقوبات، وكلها أمور كنا في غنى عنها لو أننا تصرفنا منذ البداية بشكل صحيح بدلاً من المكابرة. المشكلات تحصل في كل بلد، لكن مشكلتنا تكمن في كيفية مواجهة ما يحصل عندنا من حوادث"صادمة" فنحن نعاني من متلازمة النفي والإنكار والرفض لأي جريمة تهزنا من الأعماق، فلا نريد أن نصدق بأننا بشر وأن بيننا أخيارا وأشرارا، وبعضنا الآخر يعاني من متلازمة الغرور والعنجهية، فماذا يعني أن يموت شخص أو اثنان أو ثلاثة؟ وما المشكلة لو عاشت إحداهن حياتها ذليلة وتعيسة ومحرومة؟ مادام الأمر لا يمسهم بشكل مباشر، فالقضية لا تعني لهم شيئاً خصوصاً إذا كنا نتحدث عن شخص من جنسية أخرى. ولو أن هذا الوضع اقتصر على العامة لكان الأمر مقبولاً، أما أن نجد كتاباً وصحفيين وحقوقيين وسفراء يتصرفون على هذا النحو بل ويبررون جرائم إخوة الدم، فهذا مما يزيد في فداحة الوضع، فعمر المشكلة سيطول لأن هؤلاء يضللون غيرهم فتأثيرهم متعدٍ. هم يظنون أنهم يدافعون عن الوطن بمقولاتهم ومقالاتهم هذه وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فخير وسيلة للدفاع هنا هي الهجوم، فحين نهاجم هذا الفعل المستنكر ونطالب بالعقوبات الرادعة نعطي انطباعاً للعالم الخارجي بأن هذا الفعل مستنكر ومرفوض محلياً والعكس صحيح.
يقول المحامي طاهر البلوشي ضمن تقرير نشرته جريدة المدينة بتاريخ (1431/12/16 هـ): "ليس هناك نص قانوني في ما يخص تعذيب الخادمات أو أي شخص، والقضاء الشرعي هو الذي يحكم في مثل هذه الحالات (…) مشيرا الى أنه لا بد من سماع جميع أطراف القضية وليس من طرف واحد فقط، فربما هناك خلفيات للقضية دعت مكفولة الخادمة إلى تعذيبها مثل أعمال السحر وخلافه رغم أنني ضد هذا التصرّف فكان يجب إبلاغ الجهات المعنية." وقد لفت نظري في كلامه أمران: أنه لا يوجد حتى الآن ورغم حوادث الاعتداء المتكررة على الخادمات نص بهذا الخصوص، وأن المحامي يحاول أن يجد تبريرات لما حصل مثل السحر وكأنه يردد أحاديث شاي الضحى لعجائز القرية!
بغض النظر عما حصل في قضية خادمة المدينة وعن الأسباب التي أدت إليها وما ستؤول إليه، فنحن أمام فرصة تاريخية لنفتح ملف الخادمات الأجنبيات اللاتي تقاطرن إلى بلدنا فجأة بعد الطفرة خلال الثلاثين سنة الماضية، فلم نعرف كيف نتعامل معهن. فنحن الذين كنا حتى الأمس القريب نعرف الرق والعبودية المطلقة لأهل البيت، كان من الصعب أن نتكيف مع مصطلح السائق والخادمة، وواصلنا التعامل معهم كعبيد وإماء. لا يفهم بعضنا حتى الآن أن هؤلاء موظفون ولهم حقوق، فلا بد من تنظيم ساعات عملهم، ومنحهم إجازات أسبوعية أو شهرية، وتوفير سكن لائق وكذلك ملبس ومأكل وطبابة لهم ومن لا يستطيع ذلك فلا ينبغي السماح له بالاستقدام، كما من حقهم أن يتواصلوا مع أهاليهم وأن يستلموا رواتبهم في أوانها، وأن يعرفوا بمن يتصلون حين يتعرضون للظلم أو الإساءة. إنها أبسط حقوق العمال التي ينبغي أن توضع التشريعات التي تضمن تطبيقها على الوجه الأمثل.
حين نحمي الضعيف والغريب في مجتمعنا فنحن نحمي بذلك أنفسنا وأولادنا وأسرنا أيضاً، فهؤلاء القوم يعيشون بيننا ونأتمنهم على ما نأكل وما نلبس وعلى بيوتنا وأسرارها، كما أننا حين نحميهم ونقف إلى جانبهم إن ظُلموا فنحن نحمي أيضاً إنسانيتنا وإيماننا من أن يشوههما التعصب والغرور والحمية الجاهلية.