في الصيف المنصرم بدت مدينة "أبها" غير قادرة على أن تحتمل أهلها أو يحتملوها، لقد ضاقت هذه المهرة الفاتنة حد الدهشة، بكل هذا الصخب والضوضاء وأساور الحديد الزاحفة في شوارعها، وساحاتها العامة، وفيض البشر الراكضين كغيوم جاءت بها الريح، أو سيل جارف انحدر من أقصى الينابيع، هي موعودة مع الوقت العاصف في كل صيف بعرض فستانها المرصع بالخضرة، الملفع بسلال المطر وأقمار السماء الباردة، المخضب بخطى العاشقين على ربواتها السعيدة، وطيوبها الفيحاء، ولذا فهي لا تكف عن ترتيب تسريحة شعرها المشتهاة، وارتداء معطفها الشفقي، لكي تبدو كهلال العيد وأحلام الشعراء، هي لا تخفي فرحها الطروب، وضحكتها المغدقة، وغناءها الذي يهز سقف المدينة، ويطير كالفراشات في مواسم الثمر، ولكني سمعت ذات مساء غمغماتها وهي تهجس في أذن الأرض المسكونة بالأرواح الحية من أهلها، المغمورة بدفء الأمومة الوارف، عن رغبتها في طرح فكرة هي أقرب للمستحيل، ولكنها غير عصية على المحاولة والمغامرة والاستنهاض، واستغاثة الملهوف والحائر، وهي الدعوة إلى خروج سكانها "الريفيين" و"أنا منهم"، بعد استفحال ظاهرة "ترييف المدن" والعودة إلى "قراهم" في هذه الفترة من الموسم، نظرا لما سيحققه هذا السلوك من امتصاص تلك الكثافة السكانية، والمخزون الطوفاني من البشر، وكسرعزلة القرية وعودة الحياة إلى محاضنها، وربط المنظومة الاجتماعية بتكوينها التاريخي والاجتماعي، وإحساس الأبناء ومعرفتهم بديارهم الأولى، ومسقط آبائهم وأجدادهم، والحد من العاطفة المنقوصة وتداعياتها بينها وبينهم، وعودة الحميمية ذات الطابع الاجتماعي بين الأسر، بعد أن سلبت المدينة والمدنية ذلك الإحساس العاطفي المشبوب، وتخفيف الضغط على المنجز التنموي، والإتاحات السياحية في المدينة، والوظائف الحياتية الأخرى، والعودة لترميم وتأهيل تلك المباني والقصور القروية، والأحياء المتناثرة كعروق النفس المطمئنة، واكتشاف مكامن سحرها وروعتها، والهروب من أمراض العصر وإكراهاته، وإحياء الأمسيات الشعبية والمهرجانات في القرى، بعد أن أوهنها وأرقها جبروت الغياب والخذلان والغربة القاسية، بدعوى التصحر وغياب المطر، وانحسار الخضرة وجفاف الطين، وعطش العناقيد، ولكنها الآن تغسل جسدها العطري بالماء والحناء وتواشيح الحقول وصباحات الطل ومزامير الرعاة، فهل نطيع هذه السيدة الخضراء، ونصغي لبوحها العذب، وحلمها الطري؟ هي فكرة، فإن لم تعجبكم فقولوا بسخريتكم "العسيرية" اللذيذة: "الله يرحم عايض".