الزكاة والصدقة ومسؤولية الدولة عن رعاياها أبوابٌ ضرورية في محاربة العجز والفاقة والعوز، لكنها ليست وحدها الوسائل التي جاءت بها شريعة الإسلام لتدفع هذه الأدواء عن كافة أفراد الأمة، بل هناك باب رابع لا يقل أهمية عن تلك الأبواب، إن لم نقل إنه في كثير من الحالات يُعَدُّ الأجدى والأسرع تأثيراً في محاربة الفقر إن قامت به الأمة كما ينبغي، وتوجهت لتحصيله الأنظمة المرعية في كل دولة من دول المسلمين.
وهو بالمناسبة باب مجمع على وجوبه عند الفقهاء قديماً وحديثاً، ذلك في الجملة، وإن اختلفوا في العديد من تفاصيله فهو اختلاف لا يحول دون القول بأن الأمة مكلفة به، وأن عدم القيام به ممن لزمهم أداؤه يُرَتِّب عليهم الإثم واستحقاق العقوبة من الله سبحانه وتعالى.
وكذلك عدمُ اقتضاءِ مستحقيه له، يجعل لهم الحق في المطالبة به قضاء حتى يستوفوه ممن هو واجب عليهم.
فجميع مُصَنَّفات الفقه في كل المذاهب الأربعة تحتوي على قسم يُسَمَّى "كتاب النفقات"، يتحدثون فيه عن أحكام نفقات الزوجات والمطلقات والآباء والأمهات والإخوة والأخوات والوارثين والعصبات وأولي الأرحام والخدم، والأدلة عليه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة يسردها الفقهاء في مواضعها، كقوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهم بالمعروف لا تُكَلَّف نفس إلا وسعها لا تُضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك)، قال البهوتي "فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم أوجب مثل ذلك على الوارث" الروض المربع 623؛ وقال صلى الله عليه وسلم حين سأله رجلٌ: من أبَر؟ (قَالَ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، وَمَوْلَاكَ الَّذِي يَلِي ذَاكَ حَقٌّ واجب ورحم موصولة) رواه أبو دَاوُدَ.
بل إن نفقة الأقارب مُقَدَّمة على الزكاة بدلالة قوله تعالى (فَآت ذَا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون)، فقدم حق ذوي القربى على أصناف الزكاة الثمانية، وسماه حقاً، أي مستحقاً واجباً لهم يُسْتحق المأثمُ بتركه كما يُستحق الثواب بأدائه.
ويُمكن القول: إن سبب فشل جميع دول العالم الحديث من إسلامية وغيرها في معالجة الفقر، بل وفشل معظم الدول التي تعاقبت في تاريخ المسلمين، هو الاقتصار في معالجته على باب واحد أو بابين، مع أن القضاء على الفقر لا يمكن أن يكون إلا من زواياه الأربع.
فالدول الرأسمالية تقدم للفقراء جزءًا من واردات الدولة ومنها الضرائب، وفق أنظمة دقيقة، ومع ذلك ظلت أكثرُ الدول تقدماً تعاني من معدلات متقدمة في نسب الفقر لا تتلاءم مع مقدراتها الضخمة، بحيث لم تستطع الخروج من هذا الحرج إلا باللعب على معايير تحديد الفقر بحيث يرتفع المعيار لتنخفض نسبة الفقراء في الإحصاءات العامة بصرف النظر عن مطابقته للواقع.
أو يضطر المواطنون إلى خفض حجم الأسرة، بل والتخلص من بعض أعضائها كالفتيات، وعرض غرف أبنائهم الذين تخلصوا منهم للإيجار كي يخرجوا من دائرة الفقر.
فالإعانات الحكومية للفقراء لا يمكنها القضاء على الفقر في أي دولة من دول العالم إلا في حالة واحدة، وهي: توقف التضخم، واستمرار الفائض في موازنات الدولة سنوات طويلة، وهذا من الأمور المحالة في الواقع المعاصر، ليس محلياً، بل عالمياً.
والزكاة وحدها أيضا لا يمكن من خلالها القضاء على مشكلة الفقر، بل هي باب ممتاز للتقليل من حِدَّته والتخفيف من آثاره، وبرهان ذلك أن عدد حاملي بطاقات الضمان الاجتماعي وهو العدد الذي يمثل رسمياً عدد الأسر الفقيرة في المملكة أقل من المليون مواطن، ومقدار المبلغ المُحَصَّل كزكاة لدى مصلحة الزكاة والدخل أقل من الخمسة عشر ملياراً، أي: أن دخل حامل البطاقة شهرياً من الضمان الاجتماعي قرابة الألف ريال، وهو رقم أقل من الحد الأدنى الذي يمكن أن يرتفع به الفقر، لاسيما أن كثيراً من حاملي بطاقات الضمان لا يعولون أنفسهم وحسب.
وحين نقول مثلاً: إن الزكاة لا يتم تحصيلها بالشكل الصحيح، فلنفترض أنها لو تم تحصيلها بالشكل الذي يتصوره البعض ستبلغ ستين ملياراً، أي أربعة أضعاف الرقم الحالي، فمعنى ذلك: أن دخل حامل البطاقة سيكون أربعة آلاف ريال، أي أقل بالنصف من الحد الأدنى للكفاية للأسرة السعودية، والذي تباينت تقديراته لدى الباحثين من ستة آلاف إلى تسعة آلاف ريال للأسرة الواحدة) راجع الدراسة التي نشرت العربية نت ملخصها 1435/6/9هـ).
ويمكن القول بعد ذلك إن تفصيل حل مشكلة الفقر في الإسلام يأتي من كون الشريعة جعلت للفقير أربعة حقوق، الأول حقه في بيت المال كسواه من مواطني الدولة المسلمة، ويصله ذلك عن طريق ما تُقَدِّمه الدولة من خدمات، وقروض وإعانات ومكافآت؛ والثاني: حقه في الزكاة، ويصله مباشرة من أيدي من وجبت عليهم الزكاة، أو عن طريق صندوق الضمان الاجتماعي الذي يستحصل الزكاة ممن وجبت عليه عن طريق مصلحة الزكاة والدخل؛ والثالث: الصدقة، ويستحصل عليها الفقير حالياً من أيدي المتصدقين مباشرة، أو من الجمعيات والمؤسسات الخيرية، ونُظَّار الأوقاف.
بقي الباب الرابع، وهو: نفقة الأقارب؛ وبالرغم من كونه واجباً شرعياً وليس مندوباً إليه كالصدقات إلا أنه لا توجد حتى الآن آلية نظامية لتحصيله وتقديمه لمستحقيه سوى إحساس من وجبت عليه هذه النفقة بالمسؤولية، ومن ثَمَّ المبادرةُ بتقديمها؛ أما حين ينعدم إحساسه بما أُلقي على عاتقه من واجب، أو حين يجهل أن هذا الأمر من واجباته، أو يجهل حال قريبه من الحاجة، فلا توجد أي وسيلة لإيصال هذا الحق لمستحقه سوى القضاء.
ومن محاسن القضاء في بلادنا أنه يحكم بنفقة الفقير على ورثته المفترضين أو أدنى عصبته القادرين، وإن تعددوا وتساوت درجتهم حكم عليهم بالسوية فيما يكفي قريبهم، وتفاصيل ذلك وشروطه طويلة ليس هذا أوان نقاشها، لكن الأمر الواقع: أن الفقراء لا يتقدمون بالشكوى على أقاربهم غالباً لاعتبارات كثيرة، منها ما يتعلق بما أوتوا من اعتزاز وشمم، ومنها ما يتعلق بالمجتمع، ومنها ما يتعلق ببطء النظام وكُلفته، ولذلك بقي باب نفقة الأقارب في بلادنا شبه موصد، مع ما في الولوج منه من المنافع الاقتصادية والاجتماعية، وما فيه من تحقيق التواصي بالحق الذي أمر به الله، وتحقيق مقاصد الشرع من المواساة والتلاحم بين الناس وحدب بعضهم على بعض.
لذا أرى من المتحتم أن تقوم وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة العدل بالبحث عن آلية لفتح هذا الباب وتحقيق هذا المقصد، والأمر في نظري متيسر جداً لاسيما في ظل الأنظمة المعلوماتية الإلكترونية القائمة، والتي أصبحت تنفذ إلى ملاءات الناس المالية وما عليهم من استحقاقات ومالهم من حقوق، وقد كنت كتبت ورقة عمل بمقترح لتحقيق هذا الأمر في المؤتمر الأول الذي أقامه مركز باحثات في الرياض حول حقوق المرأة قبل أعوام قليلة، وخلاصة المقترح أن يُسند إلى مراكز الأحياء تحديد المُعِيلين القادرين من ورثة الفقراء وعصباتهم، وتحديد المقدار الذي يحتاجه الفقير وتحصيله منهم، ومتابعة ذلك وفق نظام إلكتروني شبيه بما تستخدمه شركة سمة في متابعة من عليهم استحقاقات لمؤسسات الدولة أو المؤسسات الخاصة، وبذلك يُكفى الفقير هَمَّ المسألة، أو الجري بحثاً عن حقه لدى المحاكم، ويصل بنفقة الأقارب مجتمعة مع إعانات الدولة والزكوات والصدقات إلى حد الكفاية، ويُحقق الأقارب عملياً مبدأ المواساة والتواصل بالحق والتواصل بالصبر.