هل فعلا حكومات العالم سعيدة جدا بانتشار الهواتف الذكية وتقوم بدعم هذا المنتج وما تحويه من تطبيقات وموقع تواصل؟ أم أنها هي التي ابتكرت تلك الأجهزة وجعلت منها أفيون الشعوب الجديد؟ ولماذا؟
يزعم كارل ماركس في مقولته الشهيرة أن "الدين أفيون الشعوب" بينما الواقع، حالياً، أن "الآيفون أضحى هو أفيون الشعوب". والآيفون هنا مجازية تشير إلى عموم الأجهزة الذكية وليس خصوصها.
الشعوب، في الوضع الحالي، تعيش أزمة اقتصادية صعبة في أغلب الدول، بينما هي أصعب وتكاد تكون كارثية في بقية الدول ومع هذا ترى العجب عند إصدار جهاز محمول جديد.
في إحدى زياراتي لمجمع تجاري وجدت أعدادا غفيرة من البشر (وعلى غير العادة) أمام بوابة متجر. كان الناس ينتظرون انتهاء فترة الصلاة لدخول أحد المتاجر. لم أر هذا المشهد في المركز الذي أرتاده بشكل شبه يومي لكون الموقع يضم على جنباته مقاهي جميلة وجلسات أنيقة.
كنت حائرا بين العودة وإلغاء التسوق وبين الفضول. انفتح الباب وطار الناس أمام الكاشير وهناك وجدوا من ينظمهم في "لاين" طويل! هل يعقل أن الحساب قبل التبضع؟ ماذا حل بالناس؟
سألت أحد الواقفين على ماذا "اللاين" الطويل وأمام الكاشير تحديدا؟!
قال: يشترون "الآيفون" الجديد!
وماذا عن "الراتب لا يكفي الحاجة"، والتقشف وربط الأحزمة، والعويل جراء إلغاء البدلات والعلاوات، أين ذهبت؟!
دخلت الشبكة العنكبوتية لأجد الوضع كذلك في بلدان عربية وأجنبية، تنقل لنا الصور والمقاطع مشاهد مماثلة أمام المتاجر، رغم الأوضاع الاقتصادية المتدنية، والهبوط الحاد في قيمة العملات المحلية.
هل وصل الآيفون (الهاتف الذكي) إلى مرتبة الأفيون (المخدر)، لدرجة أن يدفع المدمن ثمن المخدر بأي طريقة كانت؟ قد يوفر أحدهم مصاريف أساسية ويقتّر على نفسه وأهل بيته لأجل توفير مبلغ هذا الجهاز تحديدا.
في المقابل، توفر أجهزة الاستخبارات العالمية المليارات عن طريق تلك الأجهزة الذكية وما تحويه من وسائل تواصل لمراقبة الشعوب ورصد توجهاتها وأفكارها بعدما كانت تدفع مبالغ طائلة للأعمال التجسسية على الأفراد بلا استثناء.
لا شك أن هذه الأجهزة، وعبر مواقع التواصل العديدة، قدمت خدمات جليلة لمستخدميها غير أنه، في المقابل، كشفت "عوراتهم" الفكرية وتوجهاتهم بكل تفاصيلها.
لم تعد تحتاج للتعرف على شخص وملازمته عن قرب لمعرفة شخصيته وتفكيره وأسلوبه في الحياة في ظل وجود مواقع التواصل الاجتماعي. بل إنك لو فعلت ذلك لاحتجت فترة طويلة لسبر غوره، وهو ما تستطيع إنجازه في دقائق عبر تصفح معرفاته الإلكترونية.
الأمر ينطبق تماما على الأجهزة الأمنية في دول العالم، حيث لم تعد تحتاج لبذل الجهد الكبير لمتابعة الشخص أو استجوابه فهو يقدم كل ما يخطر بباله باختياره ورضاه من خلال مواقع التواصل التي تسأله بأدب: ما الذي يدور في ذهنك حاليا؟ ليبدأ بسرد كل ما لديه طواعية.
يوما بعد يوم، يتسع نطاق عالم الإلكترونيات الذكية، لتنضم أجهزة جديدة إلى ترسانة "الأجهزة الذكية" فيما يسمى بـ Internet Of Things أي "إنترنت الأشياء" الذي يعني دخول الإنترنت في كثير مما نستخدمه بشكل يومي كالساعات والتلفزيونات والثلاجات والسخانات حتى "المواعين" والمرآة والأدوات الشخصية.
الطبق والشوكة الذكيان يرشدانك لطريقة الأكل الصحي والكمية المناسبة ومتى تخفف من سرعة الأكل. فرشاة الأسنان الذكية تخبرك كم من الوقت استخدمتها وهل شمل التنظيف كامل مناطق الفم والطريقة السليمة لاستخدامها.
المرآة الذكية في المنزل تطلعك على حالة الطقس قبل خروجك وتنصحك بتغيير ملابسك لتوائم الأجواء الخارجية وتقدم لك معلومات الطريق والأخبار المهمة قبل مغادرتك. وهي أيضا في السوق تضبط قياسك المناسب عند شراء الملبوسات والنظارات وغيرها.
حاوية النفايات هي الأخرى أصبحت ذكية! لأنها ستخبرك عن امتلائها والحاجة لإفراغها.
هذه "الأشياء" في "إنترنت الأشياء" أصبحت وسيلة جديدة للجهات الاستخباراتية العالمية. في خبر نشرته مجلة نيوزويك الأميركية، فجّر "جيمس كلاير" رئيس الاستخبارات الأميركية مفاجأة مدوية عندما اعترف باستغلال الإدارة الأميركية للأجهزة المنزلية الذكية للتجسس على كثير من أصحابها.
وعليه، فالمستخدم واقع في حيرة عند اقتنائه تلك "الأشياء"، ما بين الانتفاع بخدماتها التقنية المفيدة وما بين الخشية من التلصص عليه وأهل بيته.
الحسنة الوحيدة، في نظري، لاستخدام تلك الأجهزة "أمنيا"، وبالأخص الهاتف المحمول، هي متابعة المتطرفين والجناة والمطلوبين للعدالة، أما غير ذلك فهي مخالفة صريحة لحقوق الإنسان.
شخصيا، من هذه الأجهزة الذكية، سأكتفي بجهازي المحمول (الآيفون) ولا أرغب في إضافة (أفيون) جديد لحياتي.