بعد حوالي الثمانين عاما من التطور الفكري والاجتماعي والتطور العمراني المؤسساتي ومن قبله السياسي، فإن التنمية في السعودية كان يجب أن تدخل في مرحلة التحديث أو ما كان يسمى سابقا بالتنمية المستدامة. هذه التنمية كانت يجب أن تأخذ بُعد الإصلاح على اعتبار أن أي منتج بعد فترة التداول الإنساني أو العملي سوف يطرأ عليه نوع من الخلل الذي يستوجب التحسين أو الصيانة أو حتى التغيير أحيانا إذا لزم الأمر ذلك، وسيرة ثمانين عاما من التنمية الصاعدة ستكون بالتأكيد في حالة من المراجعة لكثير من الخلل الذي يطرأ على كافة السياقات.

في السعودية كانت التنمية في وضع صعب بعد سنوات طويلة من التطور، ولعل الخلل ظهر أكثر خلال فترة النصف الثاني من عمر السعودية، أي خلال الأربعين عاما الماضية من توقف للتنمية بعد الطفرة الأولى، وصعود تيارات متشددة، وتوسع كبير في المنظومة البيروقراطية التي أثقلت التنمية ودخلت في تفاصيل الحياة اليومية الوظيفية، حتى أنتجت مجتمعا غير فاعل أو هو بالأحرى فاعل وفق ما تسمح به تلك البيروقراطية من عمل، أي أن اللوم لا يقع على المواطنين بقدر ما يقع على أداء المنظومة المؤسساتية التي كانت وريثة الاقتصاد الريعي الذي اعتمد فقط على تدفق النفط في الخليج، تدفقاً لم يسمح بفتح المجال لأي تنوع اقتصادي لاحقا، حتى بعد الطفرة الاقتصادية الثانية التي بدأت بالصعود بشكل ضخم جدا بعد عام 2005 تقريبا، مع صعود قيمة النفط عالميا، وسرعان ما انهار هذا الصعود لندخل في أزمات اقتصادية استلزمت الترشيد الذي يحصل حالياً.

إشكالات التنمية في السعودية تذهب أكثر ما تذهب في الخدمات التي تقدم إلى المواطن. المواطن الذي كان في الحالة السعودية مستقبلا لا منتجا بمعنى أنه ليس الفاعل الوطني في بلاده، بل هو في موقع المفعول به في الإعراب التنموي _إذا صح التعبير _ وذلك بسبب أداء المنظومة المؤسساتية التي تعتمد عليها التنمية، بوصفها منظومة بيروقراطية تعتمد على عدم استقلاليتها عن الحكومة، وخللها واضح في كثير من قضايانا، فالمشاكل المؤسساتية تحفل بها الصحف والمواقع الإلكترونية والمجالس العامة حتى غدت فاكهة النقد المجتمعي، فلا تكاد تجد صحيفة أو موقعا أو كاتبا أو حديثا بين عدد من الناس إلا وتقتات على نقد هذه المؤسسات، ووصل في بعضها إلى نقد المسؤولين بأسمائهم، كما تعدى ذلك إلى نقد البنى التي تقوم عليها المؤسسات الحكومية. الإشكالية أن مثل هذا النقد لا يذهب في وضع النقاط على المشكلة نفسها، بحيث يمكن تحديد الخيط الأولي للخلل الذي يتواجد في كل مكان في مجتمعنا سواء على مستوى مؤسسات الدولة أو على مستوى الأفراد أو حتى على مستوى البنى التقليدية التي يكافح المجتمع، ومن قبلهم الدولة، على بقائها.

دائما ما تبقى هناك حلقة مفقودة في النقد أو في التصحيح لا تحل المشكلات من جذورها وربما زادت المشكلة أكثر من حلها متى ما انتهت المشكلة المباشرة، بحيث تبقى جذور المشكلة هي ذاتها. مشاكل التعليم مثلا تتراكم حتى بعد محاولات التصحيح مع المناهج التعليمية الجديدة المتطورة، إذ ما تزال هناك حلقة مفقودة في عملية الإصلاح التربوي.

الصحة هي الأخرى عاجزة عن تصحيح مشاكل الأخطاء الطبية حتى الآن، والسبب هو في النظرة المباشرة للخطأ، بحيث يتم التعامل مع ذات الخطأ الطبي بشكل محدود لا يتعدى الخطأ نفسه دون حماية المواطنين أو تعويضهم من هذه الأخطاء.

هذه الحال تشمل كافة مؤسساتنا الحكومية، فكما شملت التعليم والصحة بوصفهما أكثر مؤسستين حكوميتين تلامسان المواطن، فهي تشمل الجامعات ومشاكلها الأكاديمية والإدارية، كما تشمل وزارة التخطيط أو الإسكان أو العمل وغيرها.

من جهة أخرى تعجز هيئة الفساد عن التدخل في قضايا الفساد التي يتم التبليغ عنها، فتحولت من وزارة ضبطية إلى وزارة توجيهية فضلا أن بعض مسؤوليها ظهروا قبل سنوات وصرحوا بعدد من التصريحات أن الوزارة الفلانية أو الأمر الفلاني أو القضية الفلانية ليس من اختصاصهم، في رؤية تجزيئية لمفهوم الفساد.

لقد تعود المجتمع على تفريغ أي قضية من أبعادها، بحيث يتم النظر في القضية دون الإطار العام الذي ولدها، أو ما يمكن أن تولده من مشكلات لاحقة. ما بعد قضايا المؤسساتية التي تلامس المواطنين غالبا ما كانت الحلول جزئية دون التعامل مع المشكلة من جذورها التي ضخمت من القضية.

عملية الإصلاح شاملة، لا يمكن أن تتعامل مع مشكلة دون النظر في المشاكل الأخرى. صحيح أن هذه المشاكل لها علاقة بالبنى التقليدية، إذ تحتاج إلى إصلاح داخل تلك البنى التي تنظم العلاقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية؛ لكن الانتزاع من تلك الحالة يحتاج إلى إصلاحات أعمق على كافة المستويات، وليس فقط على المستوى التنموي من خلال حالة الترشيد كما هو واضح حتى الآن.