إذا كان أوائل العلماء المسلمين قد أبدعوا في بناء الحضارة العربية والإسلامية في عصور مضت، ساهمت في تطوير البشرية والحضارة في أوروبا، فذلك لأن علماء الغرب عرفوا جيدا كيف يستغلون تلك العلوم، ويستثمرونها من أجل إكمال مشروعهم العلمي والبحثي، فبدؤوا من حيث انتهى العلماء العرب.
ثم إن شغف الإبداع والابتكار ليس حكرا على عصر أو جيل محدد، وإذا كان من باب الاعتراف بالفضل، أن نذكر العلماء القدامى، ونخلّد إنجازاتهم العظيمة لعصور قادمة. فإنجازات علمائنا الجدد تستحق أيضا الإشادة والتوثيق، لأنها أعادت مجد الحضارة العربية والإسلامية، ودورها الفعّال في تحسين حياة الإنسان على هذا الكوكب.
فمن إنجازات علمائنا السعوديين في هذا العصر، على سبيل المثال وليس الحصر، اكتشاف المبتعثة "نهى الريس"، لطفرة جينية جديدة، تسبب بحدوث ضمور عضلي، وضعف في الأطراف ينتهي بشلل كامل، حيث اُعتبر اكتشافها نقلة مهمة في علم الأمراض الوراثية.
كما حقق "ساير الفريدي" إنجازا آخر، حين اكتشف اختبارا تنبؤيا، يعمل على تحديد مستوى الاستجابة لدى مرضى سرطان الدم، قبل البدء بالعلاج الكيميائي، واُختير إنجازه ذلك ضمن أهم الاكتشافات العلمية لعام 2010، من ضمن مجموعة مختارة من أهم الاكتشافات البحثية التابعة لمنظومة كليفلاند كلينك. وتم تكريمه بمنحه جائزة الزمالة التي تعد أعلى جائزة بحثية تمنح لطلاب الدراسات العليا، ونُحت اسمه في لوحة الشرف الخالدة في المستشفى.
ومن تلك الإنجازات أيضا، تصميم جهاز محمول أطلق عليه اسم (TAP CONNECT)، يتميز بخاصية الترجمة الفورية للنصوص وتحويلها إلى لغة "برايل"، الذي يتيح للمستخدم المكفوف استعماله في أي وقت في حياته، مثل أي شخص مبصر. وهذا الإنجاز قدمته مبتعثة سعودية اسمها "هاجر العقيلي"، وحصل مشروعها على جائزة جامعة " كوينزلاند للتكنولوجيا" في أستراليا، من بين 60 مشروعا خلال المعرض الذي نظمته كلية الصناعات الإبداعية بالجامعة لمشاريع الخريجين البحثية عام 2012.
كما استطاع يوسف هوساوي الذي كان يستكمل دراسة الدكتوراه بجامعة ليدز البريطانية، الفوز بجائزة المؤتمر الوطني البريطاني العاشر، لأبحاث السرطان في ليفربول، من بين 30 باحثا متخصصا في هذا المجال، حيث كشف في بحثه الجينات المتسببة في مقاومة سرطان الثدي لدواء التاموكسفين.
ومن ضمن علمائنا الجدد أيضا "الدكتورة شريفة الغامدي"، المبتعثة من قبل جامعة الملك عبدالعزيز، لدراسة الدكتوراه في تخصص علم السموم الجزئية، حيث قدمت دراسة تغير من طريقة علاج تشمع الكبد، برهنت فيها على حدوث تغييرات في بعض جينات الكبد عند تناول العقاقير الطبية، وتم تكريمها بعد مشاركتها بورقتين علميتين في المؤتمر الدولي لعلوم السموم في هولندا.
وأتوقع بأن كثيرا من الناس باتوا يعرفون الآن من هو قاهر البكتيريا الخارقة المقاومة للأدوية، عالم الأحياء الدقيقة "حسام زواوي" الذي حصل على جائزة رولكس للمشاريع الطموحة، لتكريم قادة المستقبل في مجالات العلوم والصحة والتكنولوجيا والاستكشاف والبيئة والتراث، الجائزة التي تمنح كل سنتين لخمسة علماء فقط على مستوى العالم.
ولا ننسى "مها المزيني" التي زينت صورها شوارع دبي في لفتة نبيلة، بعد أن تم تكريمها من قبل اليونيسكو على بحوثها وإنجازاتها. فمنذ بداية دراستها في جامعة هارفارد، أسست أول معمل متخصص في مرض نقص المناعة، وكرست علمها وطاقتها في تجارب تهتم بالفايروسات المسببة للأمراض، فحصلت إثرها على منحة من جامعة هارفارد، والمنحة بحد ذاتها إنجاز آخر، لأنه أمر لا يتحقق بسهولة إلا للمتميزين في مجالاتهم العلمية والبحثية فقط على المستوى الدولي.
والتحدي الحقيقي الآن لا يكمن في توثيق إنجازات علمائنا الجدد ومعرفة أسمائهم فقط، بل بتكريمهم بشكل يليق بمجهوداتهم العلمية والبحثية، والدفع بإنجازاتهم المشرفة لتصدر المشهد ليتعرف عليها الجميع، وإزاحة مشاهير "الهبل" عن أي اهتمام إعلامي تماما. كما أصبحت هناك ضرورة لوجود ميثاق مهني أخلاقي تتفق عليه المنصات الإعلامية بأنواعها في البلد الواحد، أو بين مجلس التعاون، للارتقاء بالمحتوى الذي يقدم للمجتمع والعالم، على جميع القنوات المحلية والفضائية. فنحن اليوم أصبحنا في عصر العلماء الجدد، ولا نطيق أي محاولة لتشتيت أو تغييب تلك القدرات، بل بحاجة للاعتراف بأن زمن مشاهير علماء العرب والمسلمين عاد من جديد، لأن المشاهير الحقيقيين هم الذين يقدمون مبتكرات وخدمات تفيد الإنسان والبشرية جمعاء.