بدأت النخب الأميركية تقييم معنى ما حدث خلال الانتخابات الرئاسية، وقد ذهب بعضهم إلى نعي النظام الديموقراطي الأميركي الذي لطالما اعتبر نموذجا عالميا. ومن هؤلاء المفكر الأميركي "فوكوياما" الذي عبر في مقابلة صحفية عن نهاية أميركا الديموقراطية، هذا بالإضافة إلى انشغال الدول الأوروبية خاصة بالبحث حول كيف سيكون العالم مع رئاسة ترامب لأميركا. قد تكون المهمة الآن شبه مستحيلة، لأن كل المعطيات التي يتم تحليلها والاستنتاج على أساسها لا تشكل قاعدة بيانات صلبة أو دقيقة. وذلك كما كان الحال بعد التصويت البريطاني لمصلحة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، إذ لا يزال العالم غير قادر على تحديد الأسباب العقلانية التي دفعت الأرياف البريطانية إلى التصويت ضد الاتحاد الأوروبي، والأمر عينه في الانتخابات الأميركية في التصويت لرونالد ترامب بدون أسباب عقلانية واضحة. هذا مؤشر على تداعي النموذج الديموقراطي للغرب الأوروبي والأميركي، بعد أن كانت الديموقراطية تعتبر لعقود طويلة سببا في تقدمه وتطوره. وهذا ما يعيد الديموقراطية إلى أصلها بما هي آلية مجردة تعكس حقيقة المجتمعات. وما نتج عن الاستطلاع البريطاني والانتخابات الأميركية يقول إن هذه المجتمعات الآن غير قادرة على تحديد توجهاتها.

الأمر عينه بالنسبة للمجتمعات العربية التي سارعت نخبها المستغرَبة إلى رسم التحولات التي ستحدث بعد انتخاب ترامب. وكأن أميركا في حال من الوضوح والتمكن في صناعة السياسات والتوجهات أو تحديد الأصدقاء والأعداء، بعد كل ذلك الغموض الذي ساد أجواء الانتخابات وخيبات الأمل التي أصيبت بها كل مراكز الاستطلاع التي لم تعط لترامب أي فرصة بالنجاح. وربما تكون نتائج الانتخابات الأميركية قد أصابت المستغربين العرب بنكسة عارمة، إذ أنهم يعتقدون أن النموذج الأميركي هو المثل الأعلى الذي يريدون لأنظمة مجتمعاتهم العربية أن تكون على شاكلته وقيمه.

أما وقد صدموا بالنتائج فهم في حال من الضياع ويحاولون إيجاد المبررات لتلك الصدمة المفجعة والتي تمثلت بفوز ترامب.

إن المستغربين العرب الذين اعتقدوا أن انتخاب باراك أوباما قبل ثماني سنوات قمة التطور الديموقراطي الأميركي، بسب أصوله الإفريقية والإسلامية، يعرفون الآن أن تلك العملية كانت بأسرها مجرد جرعة مخدرات استفاق منها الجميع على ما شهدناه في إفريقيا والعديد من الدول العربية الإسلامية من نزاع ودمار تحت أنظار السيد أوباما وعجزه المطلق عن قيادة أميركا، وخصوصا عندما بدأت تنجلي بعض الشعارات الحقيقية لجمهور ترامب وهي تحرير الرئاسة الأميركية من الأفارقة وعودة العنصرية برموزها وأدبياتها وأحقادها لتهيمن على الخطاب السياسي الأميركي. وربما نشهد في الأشهر القادمة محاكمات سياسية لأوباما وسياساته واتهامه بالعجز عن قيادة أميركا. وبدل أن يدخل أوباما نادي الرؤساء التاريخيين لانتخابه لدورتين رئاسيتين، فمن الممكن أن يجد نفسه في رأي الأميركيين أنه الرئيس الأسوأ في تاريخ أميركا، مما سيعود بالضرر على الطامحين من النخب الأميركية الأفارقة.

بدأ الكثيرون من المستغربين العرب الترويج لترامب كما حصل مع أوباما، وذلك لأن انهيار النموذج الغربي سيشكل نهاية عقود طويلة من الاعتقاد أن النموذج الغربي يمكن استيراده إلى مجتمعاتنا، كما تم استيراد التكنولوجيا وأخواتها، وذلك لإعفاء أنفسهم من التفكير بآليات تشبه مجتمعاتهم وقيمهم. وهذا يستدعي ظهور نخب جديدة قادرة على استعادة المبادرة ولديها الوعي العميق حول مكوناتنا الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والإرادة في بلورة نظام عربي حديث يتلاءم مع الخصوصيات والمعتقدات، لا سيما وأن استيراد الصناعات هو أمر لا يشبه استيراد القناعات والأفكار، وأن العلوم هي ملك الإنسانية، لكن الأخلاق والقيم هي من خصوصيات الشعوب وهوياتها. وخير دليل على ذلك هو هذا الانقسام المجتمعي الذي تعيشه أوروبا وأميركا رغم التطور الصناعي والتكنولوجي والاقتصادي.

وهنا يأتي السؤال: متى يستعرب المستغربون العرب؟