مر كطيف من الهيام المتبتل، يمسح دمع الأرض، ويزرع الشجر العسلي في سهول الشعر وضمير الكائنات، راح ينشر روحه كالغيم على البيادر، وكحبال الشمس على تجاعيد الغروب، كان يحدثني كثيرا عن الموت والحياة العابرة وحتمية الغياب والفقد، كان مولعا بالاختباء والتأمل العميق والميل نحو الوحدة والعزلة، وبالذات في المرحلة الأخيرة من حياته، "يا موت يا حلم الضعيف المبعد...أدرك بلطف من يعيش بلا غد"، صادقت ورافقت الشاعر "أحمد عبدالله بيهان" منذ الطفولة المبكرة، حين كنا نخفي في حقائبنا الأحلام السخية، وفي دفاترنا الأمنيات العصية، سرنا معا في دروب الشعر والحياة والأمل الخافت، كان الأقدر والأسطع والمورق بالشعر المترع بالبراعة والإدهاش، كنا نحاول أن نعبر قنطرة الوقت لنلحق به أو نلامس مخزونه الغني من الدلالة والتركيب والمعمار الشعري والحضور المنبري الوثير، كان يهوى ترويض مناطق الشعر الوعرة، يطيل الوقوف أمام المعنى ليجتليه ولينضح ما فيه من ارتواء وإيحاء ومجاز، شهدت ولادة كثير من قصائده ومنها قصيدة "قطرات من قلبي" ضمن ديوانه "هيكل الحياة"، كنا على صخرة تطل على وادي "أبها" قبل أن يسقفوه، ابتعد عني قليلا ليكتب: "عبثا حاول أصحابي معي... ما دروا بالنار تكوي أضلعي"؛ "غنِّ للدهر إذا جل الأسى.. وابتسم يوم النحيب الموجع"، ما عهدناك خيالا باليا.. ضيق الصدر سريع المدمع"؛ رغم انتمائه إلى التيار الشعري المحافظ، وخصوصيته الفارقة وصلته الوثيقة بأسلافه من الشعراء العظام، إلا أنه قادر على إحداث ذلك التماس والحيوية في قصيدته المعافاة من الجمود، والمنهمرة بمساقط الشعر الحي، والتواصل الروحي المحتدم والمنعش، والهروب من تصدعات وكمائن القصيدة الرثة، واللغة الخشبية، فهو لا يرى في القصيدة "الخليلية" تهمة أو منقصة، كان لديه ولع شديد بالقصيدة الطويلة، والقص المغنى، ومسرحة الشعر، آخر أمسية مشتركة بيني وبينه كانت في "نادي جازان الأدبي" لمحت هدوءه ورهافة صوته، وإصراره على القراءة من ديوانه الثالث "مدينة النور" فقط، مما أشاع مناخا من "التجليات" الشفيفة، والفضاءات العابقة بالتطهر والإشراقية، وانكشافات العلاقة بين الروح والجسد ولبوساتها القدسية لديه "وطالما طار بي شوقي ويمم بي.. مدينة النور في أفياء خير نبي" "ويا محمد أشرق في سمائهمو.. شمسا من الحق لم تحجب ولم تغب" "هنا هواي هنا قلبي وحلم غدي...هنا امتدادي جد الأزد كان أبي" كانت إرهاصات ذلك التحول، والاستغراق في عالمه الواسع والتحليق في سماوات جماله، قد ظهرت واضحة في حوار حميم، دار بينه والأديب الشاعر "إبراهيم طالع" في العدد الـ30 من مجلة "بيادر" الصادرة عن "نادي أبها الأدبي" 1421، رحم الله صديق عمري، فهو القائل: "ما مت إن حل الفناء بجثتي... ستظل روحي في الفضاء الأبعد"، اللهم أدخله في رحمتك التي وسعت كل شيء.