أزعم أني منذ نعومة أظفاري، أي منذ سن البلوغ تقريبا- وأنا أقرأ التراث الإسلامي، والتراثيين الذين ينقلونه، في التفسير، والحديث، والأصول، والتاريخ، والتراجم، والأدب، ثم بعد هذا كتب الفلسفة وعلم الكلام.

للأفكار المجرّدة قوّتها الذاتية. وتلك طبيعة عالم الأفكار؛ التجريد، والإطلاق، والقابلية للخلود، بغض النظر عن سياقاتها، وما يحيط بها من أحوال وأوضاع.

وبهذه الطريقة كنت أقرأ التراث أكثر من عقدين من الزمن، أقرأ الفكرة من حيث هي فكرة، كأنها قيلت اليوم، فأقبلها أو أردّها، من حيث هي فكرة، غاضًّا الطرف عن كل ما يحيط بها زمانا ومكانا.

غير أني لا أزال أتعلّم، أما المعلومات فهي المعلومات، وأما المصادر فهي متوافرة حتما، غير أن "منهج القراءة" يختلف، بحسب الزاوية التي تنظر منها. فإما أن تميل إلى نزع الأفكار من تاريخها فتفهمها كما هي طائرة في الهواء، فتأخذ بها وتريد تطبيقها على عصرك كما هي، على الرغم من غياب شروط فاعليتها وقبولها، وإما أن تضعها في سياقها فتتفهمها ضمن شروط عصرها، ثم بعد ذلك يكون إنزالها على الواقع مرتهنا بشروط ذلك في واقعك، وبعلمك بالحال والمآل وما إلى ذلك.

سأتكلم عن تجربتي مع تراث شيخ الإسلام، أبي العباس، تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية، رحمه الله.

إني أحب هذا الرجل حبًّا جمًا، ولحبّي له أسباب ليس هذا موطن ذكرها، وقرأت جلّ تراثه إلا القليل جدا، قراءة فاحصة في الأبواب التي أردت الكتابة فيها عندما أردت أن أكتب كتابي المطبوع "نقد الخطاب السلفي"، وأعترف بأني كتبت هذا الكتاب تحت وطأة الحراك الفكري في السعودية، وتحت وطأة الصراع. ولئن كنت قد كتبت نقدا لخطابه؛ فإن هذا النقد لم يتجاوز العقل إلى القلب، بل كنت -ولا أزال- لشيخ الإسلام محبا ومعظّما.

وبعد أكثر من نصف عقد من الزمان بعد صدور هذا الكتاب، فكّرت أن أقرأ شيخ الإسلام في عصره، وسياق زمانه، فعكفت على قراءة كتب التاريخ الأيوبي والمملوكي؛ حيث تحرّك نور الدين زنكي بالجهاد في سياق "الإحياء السنّي"، في مواجهة التشيع الإسماعيلي على نحو خاص، لكن هذه الحركة "الجهادية السنية"، كانت امتدادا لحركة علمية انطلقت بالمدارس النظامية التي أسسها في بغداد ونيسابور وغيرها الوزير نظام الملك السلجوقي. أي أن الشعور بـ"هويّة الذات السنّية"، كان أساسًا لهذا المشروع العلمي - الجهادي الذي توّج بالدولة الأيوبية فيما بعد، على أنقاض "الخلافة الفاطميّة" التي حكمت الحرمين، والشام، ومصر، واليمن، وبلاد المغرب. ثم نشأت دولة المماليك على أنقاض المملكة الأيوبية، استمرارا لمشروعها "السنّي" الذي وقف في وجه الصليبيين من جهة، والتتار (الذين تبنّى ملكهم قازان ثم ابنه المذهب الشيعي الاثني عشري) من جهة، وأنصار الفريقين في الداخل (كجبل كسروان) من جهة.

في ظل هذه الأوضاع والسياقات ولد ابن تيمية، فأخذ مشروع "الإحياء السنّي" إلى أقصى غاية منه، من ناحية نظريّة، وكان الهاجس الأشدّ -في ما أرى- هو الحفاظ على "الهويّة"؛ لئلا تعود الأمّة فيما بعد إلى "القرمطة في السمعيات" و"السفسطة في العقليّات"، كما كان يعبر دائما.

وحين يكون الهاجس هو الهوية، وحين يكون هناك نظر إستراتيجي للمآلات التي يخشى منها، فمن الطبيعي أن يكون الخطاب متوترا، عاطفيا، كأن صاحبه منذر جيش! فإن الإسماعيلية، والقريبين منهم برابط التشيع -أعني الاثني عشرية- لا يزال الصراع معهم منذ صلاح الدين غضًا طريًّا؛ في حالة من "الهلع" خشية عودتهم حكاما على المسلمين، فإن ابن تيمية إنما تربى في حرّان التي كانت ثغرا من الثغور، فتارة يستولي عليها الروم، وتارة يستولي عليها التتار، وتارة تعود إلى أهل السنة، وكانت عامرة بالحنابلة، كما كانت عامرة بالصابئين، ثم هاجر آل تيمية منها هربا من بطش التتار الذين تنعكس صورتهم في الأذهان بالرعب والوحشية، وذكر المؤرخون عنهم ما يشيب له رأس الوليد.

حين تكون الأوضاع ضمن "نكون أو لا نكون"، في صراع بين دولتين "مذهبيتين"، في عصر لم يكونوا يعرفون فيه ما دولة مدنية حديثة، وما دولة مؤسسات، وما دولة ديمقراطية... إلخ. فالداعي إلى مذهب الخصم، داع إلى دولته. وهنا يشتد القول في "المبتدع"، لأنه لا يدعو إلى فكرة مجردة في دولة ديمقراطية تجعل شأن العقائد شأنا فرديا خالصا، بل هو -واقعا- يدعو إلى مذهب الدولة الخصم! مذهب الأعداء؛ وهو حال كل دولة في ذلك الوقت، فلا دولة إلا بمذهب، وكل داع إلى مذهب جديد، هو داع إلى دولة جديدة.

في مثل هذه الأحوال، أتفهّم أنا ابن تيمية وغيره كعبدالقاهر البغدادي في القرن الخامس (في عزّ قيام الفاطميين)، وأتفهّم قبلَه وثيقة القادر بالله العباسي عام 408 هـ، ضدّ كل مخالفي أهل السنة، وأيضا كان هذا في عزّ دولة الفاطميين التي سيطرت على العالم الإسلامي قرنين متواصلين.

إن مطالبة علمائنا هؤلاء بالتفرقة بين الديني والمذهبي والسياسي مطالبة بشيء لا يطيقونه، بل هو خارج المفكّر فيه تماما في زمانهم. كان الحفاظ على الهوية مقدما على المعرفة، ولهذا يصدر كتاب بعنوان "الفرق بين الفرق"، ليتميز صاحب هويتنا عن غيره.

تسقط الأوضاع، وتتغير الأزمنة، وتختلف الأحوال، ثم نأتي نحن فنأخذ بالأفكار كما هي، فنسقطها على واقعنا إسقاطا، ثم يصرخ آخرون أن التراث عبء علينا، الواقع أننا نحن عبء على أنفسنا، وعبء على التراث معا.