تابع العالم باهتمام كبير نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة، والتي انتهت بفوز مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب على مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، نحو غير متوقع من قبل جل المحللين ومعظم وسائل الإعلام الأميركية والعالمية. فقد مني الحزب بهزيمتين كبيرتين عامي 2008 و2012، رغم أن المرشحين في السباق الرئاسي آنذاك: جون ماكين وميت رومني، كانا يتمتعان بشعبية عالية داخل الحزب وخارجه، ولم تحط بهما المشكلات التي أحاطت بترامب، وهو القادم بالأصل من خارج الحزب وخارج حلقة السياسيين في واشنطن. كما أن هيلاري، زوجة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ووزيرة الخارجية في عهد الرئيس بارك أوباما، كانت أول امرأة تترشح لهذا المنصب، وتوشك أن تصنع بذلك سابقة يخلدها التاريخ الأميركي، مستندة على خبرتها السياسية الطويلة وعلاقاتها وعلاقات زوجها المتشعبة والقوية. لكن هذا ما حصل في النهاية: فاز الملياردير المثير للجدل برئاسة أقوى دولة، فكيف تصرف الخصم المهزوم؟
في حين كان العالم ما زال يحاول استيعاب صدمة فوز ترامب، الذي أخاف نصف شعوب العالم خلال حملته الانتخابية ليكسب أصوات الناخبين، خرجت هيلاري كلينتون في أول خطاب لها بعد إعلان النتيجة لتشكر مناصريها، وتعترف بالهزيمة، التي سمتها مؤلمة، ولتقول شيئا مهما، يوضح لنا لماذا أميركا دولة عظمى. قالت: "دونالد ترامب هو رئيسنا الآن، ونحن مدنيون له بأن نمنحه عقلا منفتحا والفرصة ليقودنا". هكذا إذاً، الاعتراف بنتائج العملية الديمقراطية، والتسليم بأن خصمها بات قائد البلاد الأول، وأن من حقه أن يُمنح "فرصة". وطبعا هذه الفرصة مدتها أربع سنوات، هي مدة فترته الرئاسية، فإن لم يستفد منها، سيُستبدل بمن يعتقد الشعب أنه الأفضل وقتها.
هيلاري كلينتون التي قد لا نتفق مع الكثير من أفكارها وسياساتها في الشرق الأوسط، لم تعترض على نتائج الانتخابات، ولم تتهم أحدا بالتزوير، ولم تخرج لتحذر الشعب من الحكم "الترامبوي" الذي سيدمر البلاد، والذي لا بد من التدخل لإنقاذ الوطن منه. ومع أن المظاهرات، عمت بعض المدن الأميركية، اعتراضا على فوز ترامب، إلا أن الجيش الأميركي القوي لم يتدخل من تلقاء نفسه، لم نسمع له صوتا، لم يجهز عدته ليضرب هؤلاء الشباب، أو ليناصرهم، أو يطلب تفويضهم لمنع وصول ترامب للبيت الأبيض. فمهمة ضبط الأمن الداخلي وحفظ النظام العام والتعامل مع مثل هذه الأحداث هي مسؤولية الشرطة. وظيفة الجيش تكمن في تلقي الأوامر من القيادة المنتخبة، وحماية البلاد من العدوان الخارجي، وتحقيق مصالحها العليا، وسلاحهم لن يكون ضد الشعب الأميركي الذي ينتمي إليه. لهذا السبب، أعلم أن أميركا -رغم فوز ترامب- ستكون بخير، وستواصل تحقيق أفضل النتائج في مجالات الطب والرياضة والعلوم والتقنية والترفيه والثقافة، فنهضتها المادية إنما هي انعكاس لنظامها السياسي رغم كل العيوب التي فيه. وبمقارنة الحالة الأميركية بالحالات العربية في الدول الجمهورية، يتضح لنا الفارق الهائل حضاريا وثقافيا على مستوى النُخب قبل الأفراد.
أدهشتني في الحقيقة تعليقات بعض الكتاب المثقفين العرب على نتائج فوز دونالد ترامب، إذ أخذوها ذريعة "للتشمت" بالديمقراطية، والتي هي في الأخير منتج بشري، يعاني الكثير من السلبيات والنواقص الهائلة بالفعل، لكنه في الوقت نفسه ساعد الكثير من المجتمعات على تحقيق الحد الأدنى من ضرورات الحياة للمواطنين، كالحرية والعدالة والشفافية، وذلك عبر التداول السلمي للسلطة ومحاربة الفساد وحفظ المال العام.
هؤلاء المثقفون أخذوا يرددون أن الديمقراطية قد تأتي بأي كان للحكم! والحقيقة أن ندرك الآن أن ترامب أرادنا ربما أن نعتقد أنه مهرج، لأن ذلك كان يخدم أهدافه وحملته الانتخابية ويحقق له الانتشار الذي يريده، لكنه أثبت في النهاية أنه أبعد ما يكون عن ذلك، فهو رجل أعمال ناجح جدا لا يعرف الفشل، وله علاقاته الواسعة، وها هو قد صار الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة!
وحتى إذا افترضنا جدلا أنه يتصف بالأوصاف التي قيلت عنه، فإن الشعب الأميركي مضطر لتحمله لمدة 4 سنوات فقط. فالمرأة الأميركية التي وضعت طفلها ليلة فوزه يمكنها التخلص منه -عبر صناديق الاقتراع- في انتخابات 2020 قبل أن يدخل مولودها هذا المدرسة. في حين اضطر الشعب الليبي على سبيل المثال أن يتحمل العقيد معمر القذافي 40 سنة دون أن يختاره، ودون أن يستطيع التخلص منه. وحينما حلت ساعة الخلاص أخير في 2011 فإن ذلك كان على حساب ليبيا الدولة والأرض والشعب والثروات، فثمن التغيير كان غاليا جدا، وتوشك 6 سنوات أن تمر على قتل الرئيس الليبي دون أن تتعافى طرابلس بعد.
الأمر الثاني، إذا سلمنا بأن الديمقراطية يمكن أن تأتي بأي كان، فإن من أهم مميزاتها أنها لا تمنح الحاكم المنتخب حكما مطلقا، بل هناك مؤسسات لها سياساتها ذات سقف وتحكمها أطر وخطوط عريضة، ولا يمكن لأي رئيس مهما بلغ من قوة وكاريزما وشعبية وذكاء أن يتجاوزها. فهؤلاء يدركون المقولة الشهيرة: "السلطة المطلقة.. مفسدة مطلقة". ترامب لن يحكم منفردا، فهناك مجلس الشيوخ ومجلس النواب والمحكمة العليا، وكل هؤلاء يعملون مثل "الكوابح" توقف شطحات أي مغامر أو مقامر. فباستطاعتهم لو أرادوا تعطيل جل برامج الرئيس، وذلك كان واضحا إبان حكم أوباما، الذي عانى كثيراً في تمرير قراراته حتى أصيبت إدارته بما يشبه الشلل.
قد يقول قائل إن كل ما تم ذكره في هذه المقالة يؤكد حقيقة بأن بعض الشعوب لا تصلح لها الديمقراطية، أو أن بعض الأمم غير جاهزة للتعددية والمشاركة الشعبية، والأمثلة حولنا حيثما يممنا وجهنا عن شرقنا وغربنا. لهؤلاء نقول بأن الشعوب الأميركية والأوروبية واليابانية وغيرها لم تولد وهي جاهزة، ولا تتمتع بجينات تجعلها أفضل وأجدر بإدارة شؤون بلادها، وإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم. وكذلك الانتخاب، فهو ممارسة شعبية تبدأ من المدرسة وتُبنى عبر سنوات داخل الإنسان حتى يشب عوده، ويستطيع أن يميز بين من يعتقد أنه يفيد بلده أو يضره، بعيدا عما تريده الروابط الأسرية والالتزامات القبلية والاعتبارات الطائفية والدينية والمناطقية، فالأوطان باقية والبشر ماضون.