"قرار أوبك بتخفيض الإنتاج لم يأت لأن المملكة العربية السعودية غيرت استراتيجيتها النفطية، ولكن لأنها طورتها من مرحلة إلى مرحلة أخرى لتواكب المتغيرات لاستقرار وتوازن أسواق النفط. سياسة الطاقة السعودية تصدر عن دولة مسؤولة، لا تستجيب لأي تضليل أو ابتزاز، لذا نراها ثابتة، تترفع عن الوقوع في المصالح الضيقة والمماحكات التي تحاول بعض الأذرع الإعلامية الغربية فرضها على كل الفاعلين في مجال النفط، والطعن في سياساتنا النفطية والاصطياد في الماء العكر.
القيادة السعودية وطنت السياسات، بحيث تفرق بين الأقلام الحرة والمستأجرة. وهناك من يذهب بعيدا، إما بجهل منه أو بتجاهل مقصود ليحاول إيهام الرأي العام المتابع أن السعودية فشلت في الجمع بين تحقيق سياساتها الوطنية وسط متغيرات المرحلة الحادة، وتأمين الحد اللازم لاستمرار عجلة النمو الاقتصادي، أما يكفي أن المملكة تحملت 41% من تخفيض الإنتاج الإجمالي مع أن نسبتها من الإنتاج الكلي لأوبك هي 31%؟".
مجهود مثمر
بعد عامين من استراتيجية أوبك في عدم تغيير مستويات الإنتاج ومقاومة التراجع الكبير في الأسعار، عادت أوبك بمجهود مثمر واجتماعات مكثفة برجوع لافت إلى سياسة إدارة السوق، بعد ما فشلت كل آمال أسواق النفط خلال السنتين الماضيتين في إيجاد بديل يعتمد عليه في تحقيق التوازن المطلوب للأسواق دون تعاون أوبك، وهذا ما جعل العالم أمام واقع ثابت، وحقيقة لا يتطرق إليها الاحتمال ترد على كل من ادعى أن منظمة أوبك ماتت سريريا، وأنها خسرت دورها القوي كصمام أمان لتوازن أسواق النفط!
تحلق بكل ثقة
ها هي أوبك تحلق بكل ثقة بتفعيل اتفاق الجزائر، لتعلن عن اتفاق خفض إنتاج النفط بـ1.2 مليون برميل يوميا، ليصل الإنتاج إلى 32.5 مليون برميل يوميا، بل تمكنت أوبك من إقناع شركاء من خارجها بتخفيض الإنتاج بـ600 ألف برميل يوميا، تضاف إلى ما التزمت به من تخفيض، فقد تعهدت روسيا بخفض إنتاجها بنصف الكمية 300 ألف برميل يوميا.
وهذا يعد أول خفض للإنتاج تتفق عليه أوبك منذ 8 سنوات، ويعول الاقتصاد المحلي والإقليمي والعالمي، كثيرا على هذه الخطوة في تحسين مزاج الأسواق واستقرار أسعارها عند حدود تضمن آمال المنتجين، وتحقق مصالح المستهلكين.
الرسالة واضحة
ولمن يصف قرار أوبك قبل سنتين بالخاطئ، أو وصف أوبك بأنها في غيبوبة أو أنها ماتت سريريا وأصبحت بدون جدوى، نقول: الرسالة واضحة جدا، ومهمة لأسواق النفط لأن قرار أوبك كان قبل وسيكون بعد السنتين، وهذا ما يؤكد ما يحاول البعض التشكيك فيه، فإن منظمة أوبك، كانت ولا تزال أهم منصة ومنتدى للنقاش والاجتماع والاتفاق، ومرجع لأنفع القرارات والاتفاقيات المتعلقة بأسواق النفط العالمية. وعند الحديث عن دور أوبك فإن العضو الأبرز هو المملكة العربية السعودية، والتي تحملت العبء الأكبر في تخفيض الإنتاج 41%، مع أن نسبة إنتاجها من إجمالي إنتاج أوبك 31%، لذلك فإن دور فالسعودية هو الأكبر في كل الظروف التي مرت بها أسواق النفط، لتحقق القدر اللازم من الثقة بأسواق النفط، وحسن التعامل بين طرفي المعادلة، دول الإنتاج ودول الاستهلاك.
المملكة وكأكبر مصدر للنفط في العالم، تقود مع المنتجين الآخرين سفينة أسوق النفط عبر الممرات الآمنة للوصول بها إلى المرافئ المستقرة، وذلك لتحقيق أكبر قدر من مصالح المنتجين والمستهلكين ولاستقرار صناعة النفط، وأسواقه وما يقوم عليه من صناعات.
توهم البعض
كل من يتابع حراك أسواق النفط يدرك حجم الجهد المطلوب لضمان استقرارها، فأسواق النفط من بين أكثر البيئات حساسية، فهي تتأثر بجميع المتغيرات في محيطها، ولقصر نظر بعض المنظرين، أو لمحاولة منهم للنيل من السعودية مصدر الأمن والاستقرار لأسواق النفط، يحاول البعض قراءة استجابة المملكة لهذه المتغيرات، بما يتوافق مع استراتيجياتها، على أنه تنازل عن دورها في ضمان الاستقرار واستمرار التوازن العادل في أسواق النفط.
ربما توهم البعض أن المملكة تخلت عن جهودها ومكانتها المتفردة، في الحفاظ المستمر على توازن أسواق النفط، وكل ما يتصل بها، لقد جهل هؤلاء أو تجاهلوا، أن المملكة لم تغير مواقفها ولا استراتيجيتها النفطية، ولكنها تعمل على تطويرها، بما يناسب كل مرحلة، فلا يمكن أن يستمر دورها الريادي دون مسايرة دقيقة وسرعة استجابة كافية لضبط إيقاع أسواق النفط التي تعرف بحساسيتها لكل المتغيرات حولها.
حالة من الاتزان
تدخل الكبار يبسط حالة من الاتزان تبدل حالات التدهور التي كان من أبرز أسبابها تخمة المعروض، منذ صيف 2014 مما أدى إلى تراجع الأسعار بنسبة 60% كاستجابة متوقعة منذ ذلك الحين. ويبقى السؤال، إذا كانت الكمية المعروضة، مناسبة لتوازن أسواق النفط، فهل سنرى أثر ذلك في وقت أقرب من التوقيت الذي روج له إعلام النفط الغربي المغرض؟!
وبحسب الوقائع فإن الأسواق ستتوازن وبوتيرة تظهر للجميع، لأن تخفيض ما مجموعه 1.8 مليون برميل يوميا، 1.2 مليون برميل من دول أوبك، مضافا إليه قدر 600 ألف برميل يوميا، من خارج أوبك كفيل بتصحيح الأسواق وتعافيها.
إستراتيجيات راسخة
السعودية تذهب بمراميها بعيدا، وذلك عبر استراتيجيات راسخة، تضمن حظ كل شريك، وتحقق آمال وتطلعات المواطن، فالسعودية لها اليد الطولى في إعادة التوازن لأسواق الطاقة، كل ما عصفت بها ريح المصالح الضيقة، والتسييس الأرعن من البعض، وذلك عبر وسائل متباينة في نوعها، متحدة في قصدها، فتارة بتقديم التضحيات، وأخرى بالضغط المباشر بكل ما لها من ثقل إقليمي ودولي، لإعادة قطار أسواق النفط لمساراته الآمنة، ليصل الإمداد إلى كل محطة مقصودة بتوازن يضمن الاستقرار، ويحقق أهداف دول الإنتاج والتصدير، دون الإضرار بشركاء الاستيراد والتصنيع.
أوبك لم تمت
المتابع يدرك تماما أن القيادات السعودية خلال جميع الأزمات النفطية التي مرت، لم يخطئها النجاح، في إدارة الأزمة وبطريقة تحفظ بها مصالح جميع الأطراف، ولم يكن بدعا أن أثبتت لكل العالم المعني، أن "أوبك" موجودة ومؤثرة، ولم تمت كما روج له البعض، لأن المملكة تنطلق من رؤية واضحة وهدف ثابت كان وما زال، هو استقرار أسواق النفط دون أية مصلحة في اختلاق حرب أسعار أو تسييس لهذا المنتج الحيوي.
* د. فيصل مرزا مستشار في الطاقة وتسويق النفط، مدير دراسات الطاقة في منظمة أوبك سابقا