من أبرز نتائج العولمة أن خارطة العالم سوف تتغير خلال السنوات القادمة بشكل كبير وملفت للانتباه، مما يتوجب علينا الاستعداد لمواجهة هذه التغييرات الجذرية ووضع الاستراتيجيات المناسبة لمعالجة تحدياتها المصيرية.
طبقاً لتوقعات الأمم المتحدة فإن عدد سكان العالم سيرتفع في عام 2050م إلى 9,5 مليارات نسمة. بدلاً من الصين، ستحتل الهند المرتبة الأولى بحوالي 1,5 مليار نسمة، تتبعها الصين في المرتبة الثانية بحوالي 1,4 مليار، ثم أمريكا في المرتبة الثالثة بحوالي 397 مليون نسمة. أما السعودية فسوف تقفز إلى المرتبة 29 ليرتفع عدد سكانها إلى حوالي 60 مليون نسمة، لتتفوق بهذا العدد على بريطانيا العظمى التي ستحتل المرتبة 30 بسبب انخفاض عدد سكانها إلى نحو 59 مليون نسمة في ذلك التاريخ.
وبناءً على توقعات صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن تتربع الصين بعد 20 سنة عرش أكبر اقتصاد عالمي بناتج محلي إجمالي يفوق 83,000 بليون دولار في عام 2030م، لتتفوق بذلك على أمريكا التي ستحتل المرتبة الثانية بناتج محلي إجمالي لا يزيد عن 34,000 مليار دولار. أما اليابان فستتراجع إلى المرتبة الرابعة بعد الهند التي ستحتل المرتبة الثالثة بناتج محلي إجمالي يفوق 26,000 مليار دولار.
عالم الغد لن يكون مثل عالم الأمس أو حتى مثل عالم اليوم. القرية الكونية الصغيرة التي نعيش عليها سوف تتكون من ثلاث تكتلات ضخمة، وتقسم حجم الاقتصاد العالمي إلى أربعة أقسام. القسم الأول يشكل 33% ويضم تكتل دول أمريكا الشمالية والجنوبية، والقسم الثاني يشكل 32% ويضم تكتل 27 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، والقسم الثالث يشكل 23% ويضم تكتل دول شرق وجنوب آسيا الذي يعرف اليوم بتجمع (آسيان). أما القسم الرابع لما تبقى من قيمة الاقتصاد العالمي الذي لا تزيد نسبته عن 12% فسوف يكون من نصيب الدول الأفريقية الفقيرة ودول الشرق الأوسط المتناحرة التي فشلت في الاستفادة من العولمة لإنشاء تحالفاتها الاقتصادية وشراكاتها التجارية.
منذ ولادة النظام العالمي الجديد قبل 20 عاماً، أرست العولمة مفاهيمها وعكفت على توحيد أنظمتها واتفاقياتها تحت مظلة واحدة ضمن التزام شامل موحد. لتاريخه انضمت إليها 153 دولة، منها 38 دولة إسلامية لم تفقد شيئاً من عقيدتها، و12 دولة عربية لم تفقد ذرة من عروبتها، ومنها الدول الصغرى الصاعدة والنشيطة التي ربحت مليارات الدولارات في حروبها مع الدول الكبرى المتعجرفة في قضايا الموز والحديد والهرمونات.
انتشر النظام العالمي في دول القرية الكونية ليزيل حدودها الجمركية وعوائقها الفنية، فأصبحت سوقاً تجارياً مالياً اقتصادياً واستثمارياً واحداً، تنسجم فيه مبادئ النفاذ للأسواق مع المعاملة الوطنية، وتتوفر لها حقوق الدولة الأولى بالرعاية، وتنحصر سلوكياتها في تبادل المنافع ضمن منظومة متكافئة من الحقوق والواجبات، تمتثل لأحكامها جميع الدول لتصبح العولمة رافداً من روافد التنمية والرفاهية وتحثها على الابتكار والإبداع والمشاركة لتطويع مفهومها لصالح شعوب القرية الكونية.
ومع أن العولمة الاقتصادية المتمثلة بمنظمة التجارة العالمية لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها من المنظمات الدولية الأخرى التي تفتقر إلى البراءة المطلقة، سياسية كانت مثل الأمم المتحدة، أو مالية مثل صندوق النقد الدولي، أو تمويلية مثل البنك الدولي، إلا أن جميعها جديرةً بالدراسة والتعمق في شؤونها وشجونها لاستخلاص مكاسبها وتخفيف وطأة خسائرها وتكاليف الانضمام إليها.
وهذا لن يتم بالوقوف أمامها كالمتفرج عن بعد أو الرافض لقراراتها، فالمكاسب تتأتى من الانخراط في نظامها ودراسة مناهجها ومقارعة خبرائها والتعمق في مداخلها ومخارجها.
دخول ميدان العولمة كالانضمام لجامعة عريقة، تسن شروط القبول وتوحد مناهج الدراسة لكل من يلتحق بها. الطلبة المنتظمون في الدراسة والمواظبون على المشاركة والمثابرة هم المستفيدون الوحيدون من مناهجها، ليتخرج منها خبراء الاقتصاد والهندسة والطب والعلوم بشهادات متطابقة مع جميع مثيلاتها من الجامعات العريقة في العلـم والمعرفة مهـما كانت لغة الكلام أو عقيـدة الأقلام، لتصبح هذه الشهادات (معولمة) بين شعوب الأرض ولتعطي الحق لحاملها في ممارسة العمل بمجال تخصصه في أي بقعة من بقاع المعمورة.
مناهضو العولمة لا يملكون دليلاً واحداً على أن المسلم خسر (عقيدته) عند تخرجه من جامعة بريطانية، أو أن العربي فقد (عروبته) عند تخرجه من جامعة أمريكية، أو أن المواطن تخلى عن (وطنيته) لدى تخرجه من جامعة ألمانية. والعولمة أيضاً هي الجزء الأكبر من التقنية والمعرفة التي لا تخضع إلى لغة واحدة، أو تنتمي إلى جنسية وحيدة أو تعتمد على ثقافة محددة.
إذا كنا من أنصاف المتعلمين فلن نستطيع أن نقارع عالماً في مجال تخصصه، وإذا كنا من الأطباء المغمورين فلن نفلح في جدالنا مع أخصائي في تشخيصه، وإذا كنا من الشعوب المنكفئة والمنعزلة عن مجريات الأحداث العالمية فلن ننجح في التعرف على مفهوم العولمة للاستفادة من أحكامها واتفاقاتها وتحييد عشوائيتها.
مفهوم العولمة يحتاج إلى نخب بشري مترابط العزيمة، عميق الثقافة، عظيم الكفاءة، حاضر الذهن والمعرفة. وهل نرضى بأن نكون غير ذلك ونحن من بدأت عقيدته بكلمة "اقرأ" وتوحدت شعوبه تحت رايـة "العلم من الإيمان" وساهمت عقول أجداده في "عولمة" الطب والجبر والفلك والهندسة؟