كان عنوان الندوة الأولى في برنامج ليالي الرواية السعودية الذي نظمه مركز الملك فهد الثقافي بالرياض "الرواية السعودية: واقعها واستشراف مستقبلها". وهذه الصيغة للعنوان توجِّه دلالته إلى معارضة واقع الرواية بالمستقبل، فهو لا يقصُر الحديث على واقع الرواية أي لحظتها الحاضرة، وإنما في تعارضه واختلافه عن مستقبلها. ومن دون أن يحمل المستقبل معنى التعارض أو الاختلاف عن الواقع يصبح العنوان لغواً من القول؛ لأنه –عندئذ- بلا معنى.
وقد بدا لي العنوان بتلك الصيغة دلالة على وعي ثقافي ومعرفي وازن بأكثر من وجه؛ سواء من جهة الكشف عما يحتجز الرواية وثقافتها من قيد الحاضر وواقع لحظتها الراهنة، أم من جهة الطبيعة الأجناسية للرواية التي تلحُّ على التغير والتغاير باستمرار، أم من جهة ما يرشح في العنوان من دلالة انحياز إلى المستقبل وليس الحاضر، لأنه مقترن بالدعوة إلى استشرافه، ومخصَّص في معنى التطلع إليه.
ولهذا قلت في مداخلتي في تلك الندوة:
إن وضع الواقع في مقابل المستقبل، يعني الرؤية إلى الواقع متحركاً ومتغيراً وصائراً ومتحولاً، لا ساكناً وجامداً.
وهذا موقف نقدي للواقع من جهة الطموح إلى تغيُّره، وتطوره، وإصلاحه... فالواقع –هكذا- ليس مقنعاً لسبب أو آخر. إنه واقع قصور يحتاج إلى اكتمال، أو اضطراب يحتاج إلى تنظيم، أو سطحية يعوزها العمق، أو عمى يحتاج إلى بصيرة، أو ضيق يحتاج إلى اتساع...
أو هو موقف نقدي للمستقبل من جهة الخشية من التغير؛ لأنه يعني لدى هذا الموقف، التدنِّي إلى ما دون الحاضر، وفقدان مكتسبات الواقع، وإظهار عيوب الذات. وعادة ما ينحصر في سجن هذا الموقف الذي يأبى النقد للَّحظة الحاضرة وللذات، ثلاث فئات:
-1 التقليديون، الذين يرون الكمال في الماضي، والحاضر – من وجهتهم- لحظة أقل من مستوى الكمال في الماضي، ولكنها – بدورها- أكمل من المستقبل؛ لأن الحركة باتجاهه تدنٍّ حتمي مستمر.
-2 المؤدلجون، بالمعنى الذي يضع الإيديولوجيا في مقابل اليوتوبيا؛ فهم يرون الحاضر لحظة اكتمال وصحة ومصلحة، ويجتهدون في هذه الوجهة، من أجل التثبيت للواقع والحرب ضد التغيير.
-3 النرجسيون، وهم المتضخمون بذواتهم، الذين يتوهمون العبقرية والنموذجية في ما يصنعون، ومن ثم يلحِّون في طلب الثناء عليه، وكيل المديح له، وإشهاره، ومهاجمة من يدنيهم قيد أنملة عن مراتب الصدارة والتفرد.
استشراف المستقبل – وهو التطلع إليه والحدْس به- يكمن، مادام الأمر كذلك، في وجوه النقد التي تكشف عن عيوب الحاضر وقصوره، بما يؤشر إلى الرغبة في التقدم؛ فالنقد بهذه الصفة، هو طاقة الشروع والتحفز، ومسافة التباعد عن الحاضر باتجاه ما يجاوزه.
وليس لذلك دلالة تعميم على سقوط الرواية السعودية الصادرة في زماننا الحاضر بأجمعها في الرداءة، واستحقاقها الذم، والقدح في كل إصداراتها؛ لأن العدد الذي يستحق الثناء من الأعمال الروائية، أو حتى جوانب جزئية في بعض الأعمال، لا يدخل في الحديث عن واقع الرواية بما هو حديث عنه تخصيصاً من جهة الاستشراف لمستقبلها؛ فهذه روايات أو ملامح من روايات، سَبَقَت – بحكم امتيازها- إلى المستقبل، وتجاوزت بما تحقق فيها ولها من طاقة إبداعية، اللحظة الحاضرة.
أن نتحدث عن استشراف ما لمستقبل الرواية السعودية، يعني أن نصف وجوه القصور والضعف فيها كما تبدو لنا. لأن توصيفنا لواقع مُنْتَج ثقافي في لحظته الراهنة، يحمل بالضرورة أمنياتنا تجاهه في المستقبل، أو مخاوفنا ووجوه حذرنا تجاهه في المستقبل.
كان النظر –مثلاً- إلى الرواية السعودية في السبعينات والثمانينات الميلادية، يتجه إلى وصف قِلَّة إنتاجها، وضآلة عدد الروائيين، وكان الحضور الطاغي للشعر وللقصة القصيرة. وهذا التوصيف دلالة شكوى، وعلامة فقدان، وفحوى أمنية، في حضور كثيف للرواية. لم يكن أحد –في غالب الأحوال- يتحدث عن جودة أو إتقان أو ابتكارات سردية... كان الحديث منصبّاً على الفقدان، والضآلة، والقِلَّة.
كان ذلك التوصيف لواقع الرواية السعودية آنذاك، استشرافاً للمستقبل، أي رغبة في التغير إلى ما يجاوز الحاضر، ويسد نقصه، وحاجته إلى حضور الرواية، وكثرة الروائيين.
أبرز سمة في واقع الرواية السعودية الآن، كثرة الروائيين والروائيات، وكثافة إصدارات الرواية، فهي في بعض سنوات العقد الأخير تُجَاوز عدد الدواوين الشعرية والمجموعات القصصية والدراسات الأدبية.
هذه الكثرة جعلت توصيف واقع الرواية السعودية الآن، من جهة استشرافه للمستقبل، يتجه -عكس اتجاهه إلى توصيف القلَّة في السبعينات والثمانينات- إلى السأم من طغيان إصدارات "روائية" كثيرة يهيمن عليها التشابه، وتسقط في الرتابة والنمطية، أو في خطاب مطلبي ومرافعات حقوقية، في لغة أحادية مباشرة أحياناً، أو لغة تزويق وتفاصح بلاغي يعوزها العمق والتناقض والصراع أحياناً أخرى.
لذلك فإن استشراف مستقبل الرواية، هو ما ينطوي عليه توصيف واقعها على هذا النحو من أمان في تحول الكثرة العددية، إلى نصوص نوعية، وبروز أعمال فذة، وابتكارات سردية مدهشة، وتبلور لفكرة الجمال الفني، بوصفه خاصية حرة، تَفْسُد بأي قيد نفعي أو وعظي. إنه الصفة الأعمق للَّعب –فيما رأى شيلروجادامر- الذي يحقق المتعة والحرية، ولكنه يستبطن جديَّة لا تدركها النظرة السطحية والعقلانية.
إن الرواية بموجب خاصيتها الأجناسية التي تضاف إلى طبيعتها الإبداعية الأدبية، لا تكف عن استشراف المستقبل؛ فهي مجافية للواقع، ومعاندة للسكون، وحافلة بالاختلاف والتناقض.
وأول امتيازاتها –بهذا الصدد- الفعل النقدي، فليس هناك رواية بالمعنى الدقيق تمدح الواقع المرجعي لها، وتُؤمْثله. وفي ذلك دلالة على احتشادها بطاقة التغير واستشرافه والتوق إليه. وذلك الامتياز يضاف إلى سمة ثانية في الرواية، هي صفتها الإبداعية؛ فلن نقرأ رواية تجري وفق توقعاتنا؛ كل رواية –بالمعنى الدقيق دائماً- خرق مستمر للمتوقع، وابتكار في التأليف والتخيل. وهذه صفة تَبَاعُد مستمر عن الواقع.
فإذا أضفنا السمتين السابقتين إلى ثالثة، هي الترابط بين جنس الرواية والحداثة، فإن خواص الحداثة تحفر علاماتها في جسد الرواية، فتغدو دلالة على مجتمع المدينة، والتقنية، والحقائق النسبية، والاغتراب، والعزلة، والقلق، والتحولات المتسارعة، والرهان على عالم غير مكتمل، واحتمالات ناقصة... إلخ. وذلك فضٌّ لدائرة السكون والثبات وانفتاح على التغير.
ولن تكتمل سمات الرواية من دون أن نضيف ركناً رابعاً ينبع من اتصافها بالحوارية والتعدد الصوتي، فليس هناك رواية بشخصية واحدة أو بصوت واحد حتى الرواية المونولوجية، ولذلك تتزايد قوة الرواية بجمعها المتناقضات وحفولها بتعدد الأصوات.
وبالطبع فإن النتيجة لذلك، هي جنس أدبي معقَّد ومركَّب ويستدعي مواهب إبداعية، وثراء لغوياً وثقافياً، وقدرة على التفلسف. وهذا ما يجعل مستقبلها قلعة يصعب اقتحامها إلا على المؤهلين، وهم –كما هو شرط الإبداع دائماً- قِلَّة.