كانت الساعات الأولى من فجر يوم التاسع من نوفمبر 2016 بالغة الدّقة بالنسبة للسياسة الأميركية والدولية، وذلك عندما بدأت نتائج الانتخابات تعطي تقدّماً ملحوظاً للرئيس المنتخب دونالد ترامب. وهذا طبيعي لأنّ ما طرحه ترامب خلال حملته الانتخابية سيحدث تغييراً عميقاً في بنية المجتمع الأميركي وسياسته الخارجية ودوره في العالم.
وغير صحيح ما يقال إنّ الوعود الانتخابية تذهب بعد الانتخابات، لأنّ الوقائع تقول إنّ الحدّ الأدنى من تنفيذ المرشّحين الرئاسيّين لوعودهم الانتخابية على مرّ تاريخ أميركا كان بنسبة 75%، وهذا ما يفرض على الجميع في أميركا وأوروبا والعالم أن يتعاملوا مع الشعارات التي طرحها دونالد ترامب بوصفها خارطة طريق سياسية للبيت الأبيض على مدى 4 سنوات قادمة. ودليل ذلك تلك المظاهرات التي انطلقت في مدينة سياتل وغيرها رافضةً النتائج الانتخابية، فهذه الظاهرة غير مسبوقة في تاريخ أميركا الحديث. أضف إلى ذلك مسارعة كل رؤساء الدول تقريباً، وفي مقدّمتهم الرئيس الروسي، إلى ملاقاة الرئيس الأميركي الجديد للحديث عن تطوّر العلاقات بين بلديهما مع الحذر الشديد، بالإضافة إلى مسارعة وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي إلى عقد اجتماع يوم الإثنين القادم، أي بعد غد، لمناقشة هذه التطورات.
نستطيع القول إن صعود الجمهوريّين بهذه القوّة إلى البيت الأبيض ومجلسي الشيوخ والنواب سينتج أميركا مختلفة، على أنقاض سياسات أوباما والحزب الديموقراطي على مدى 8 سنوات، والتي كان أساسها ما عرف بتقرير بيكر- هاملتون الذي اعتبر سياسة "بوش الابن" في المنطقة كارثيّة على المستوى الاقتصادي والعسكري والسياسي. وقد أوصى التقرير بالانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة، مما أتاح لأوباما والحزب الديموقراطي استغلال التقرير إلى حدّ الانكفاء التام، مما أحدث خللاً في صورة أميركا وبالتوازن الإقليمي والدولي. هذا بالإضافة إلى الاتفاق النووي الإيراني والذي أطلق يد إيران في المنطقة مع تعاظم الدور الروسي والخلاف الكبير مع الحلفاء التاريخيين، من تركيا ودول الخليج وغيرهم.
لا أحد يستطيع أن يتكهّن بالسياسات التي سيتّخذها الرئيس الجديد، داخليّاً وخارجيّاً، لأنّه جاء إلى الانتخابات من خارج الحزب الجمهوري، ولم يسبق له أن تولّى أي مهمة سياسية، ممّا سيعزّز دور المؤسسات التقليدية والمستشارين. إنّ توقّع أي سياسة للرئيس دونالد ترامب يعتبر ضرباً من ضروب الخيال، عكس ما كان متوقّعاً من المرشحة هيلاري كلينتون التي كانت في صلب الحياة السياسية الأميركية على مدى عقود طوال، من البيت الأبيض إلى الكونجرس إلى وزارة الخارجية. وكانت التباينات بينها وبين سياسات أوباما واضحة ومحدّدة. قد كان من الممكن التكهّن بأولوياتها السياسية، وهذا أمرٌ مستحيل مع الرئيس دونالد ترامب.
يبقى ما يهمّنا في المنطقة من توقّعات وتغييرات في السياسة الأميركية بعد أن حوّلت سياسات أوباما المنطقة العربية إلى ساحات ملتهبة، تاركةً للتدخلات الإقليمية والدولية هامشاً كبيراً بسبب سياسة الانكفاء أو القيادة من الخلف، كما عزّزت دور منظمات الأمم المتحدة غير القادرة على إدارة نفسها لتصبح شريكاً كبيراً في أزمات المنطقة، بدءاً من اليمن وصولاً إلى سوريا وليبيا والعراق.
تابعت المجتمعات العربية الانتخابات الأميركية الأخيرة بشكل غير مسبوق، مع انخفاض في مستوى التوقعات، وخصوصاً بعد ما أعطته نتائج الاستطلاعات لكلينتون من تقدّم على مدى أسابيع طوال. مما جعل من انتخاب دونالد ترامب حدثاً خارج التوقعات والاستطلاعات والتحليلات بما فيه ما كنّا قد كتبناه سابقاً حول نتائج الانتخابات، لأننا لم نكن قادرين على تجاوز استطلاعات الرأي ومراكز الأبحاث الأميركية.
الاستثناء الوحيد الذي يمكن أن نتوقّعه في الأيام القادمة نتيجة لانتخاب دونالد ترامب رئيساً لأميركا هو انتهاء مرحلة أوباما في المنطقة، والتي وضعت الاتفاق النووي مع إيران في رأس اهتماماتها على حساب إسرائيل والعرب في آن. وقد استطاعت إدارة أوباما أن تمنع الحكومة الإسرائيلية من أي سلوك ممكن أن يعطّل المفاوضات الإيرانية - الأميركية التي استمرت على مدى سنوات، ولو كان ذلك أيضاً على حساب ما كان قد تعهّد به الرئيس أوباما في حلّ القضيّة الفلسطينية عندما قال في افتتاح الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 2010 "أريد أن أرى في العام القادم فلسطين دولة كاملة العضوية". فما كان من أوباما إلا أن أطلق يد إسرائيل في الاستيطان مقابل عدم تعطيلها الاتفاق النووي مع إيران.
والمتوقّع الوحيد الآن هو أن تعود إسرائيل إلى التموضع المباشر في ساحات النزاع مما قد يقلّص دور إيران في المنطقة، وعلى وجه الخصوص في سوريا ولبنان.. أي أنّ ترامب مع تعاظم دور إسرائيل وتقليص دور إيران.