يخبرنا المتخصصون في العلوم الاجتماعية والإنسانية بأن خضوعنا لأي تجربة أو حدث لا بد أن يمر بدائرة وعي، أولها التعايش مع الحدث، يليها التأمل الواعي للدروس المقصودة وغير المقصودة المصاحبة له، ثم المرحلة الثالثة وهي تطوير آلية التعامل مع الحدث أو المتغيرات المصاحبة كآلية استباقية في حال تعرضنا له مرة أخرى، لكن مع تسارع الأحداث حولنا وجرينا المستمر للّحاق بها قد تفلت منّا مرحلة التأمل الواعي لما يحدث ويفوتنا التعلّم مما يجري وعليه فإننا قد نمر بالتجربة عاما تلو عام دون أن نتوقف للتفكير بالأسلوب الأمثل للتفاعل معها.

عندما سألت أستاذ النقد عن العواقب المترتبة على غياب مرحلة التأمل في التجارب أو الأحداث علّق قائلًا (إن غياب التأمل الواعي لما يحدث يغيّب التغذية الراجعة، وغياب التغذية الراجعة ضياع للوقت والجهد، لأنه من العبث أن يكرر الفرد أو المؤسسة نفس التصرف ويتوقع نتائج مختلفة).

تذكرت هذا وأنا أقرأ تصريح المتحدث الرسمي لوزارة التعليم الخاص بربط القبول الجامعي بمواظبة الطلبة في المدارس، لا أختلف أبدا مع الهدف الممتاز لهذه الدراسة وهو الحد من الغياب، فالانتظام في الدراسة مهم للتحصيل العلمي ولتحقيق أهداف المرحلة الدراسية، لكن هل ستأخذ الوزارة بعين الاعتبار التبعات الإضافية لهذا القرار على القبول الجامعي الذي تتزايد تعقيداته أساسا في كل عام لأسباب مختلفة؟ هل درست الوزارة أسباب التغيب عن المدرسة قبل أن تلوح بعصا الحرمان من المقعد الجامعي في وجه الطالب؟

إن تغيب الطالب عن المدرسة بالذات في المرحلة الابتدائية يرجع لعجز المدرسة عن جذبه للحضور وعن تنمية دافعيته للتعلم، وهذه حقيقة يصعب أن تتجاوزها الوزارة بقرار، بل تحتاج إلى عمل منظم يجعل الطالب يقبل على المدرسة ويرغب شخصيا في الحضور، فالمدارس بوضعها الحالي فيها العديد من التحديات التي يجدر حلها قبل أن نُطبِق على عنق الطالب ونقول (إما أن تنتظم أو تحرم من مقعدك الجامعي). ماذا عن تكدس الفصول وعدم صلاحية بعضها للدراسة؟ ماذا عن غياب الأنشطة الحركية وغير المنهجية بأنواعها المختلفة؟ ماذا عن عدم وجود معلمين لبعض المقررات؟ ماذا عن غياب المعلمين أنفسهم؟ هل المشكلة هي فقط في الأسبوع الميت؟ ومن الذي أطلق عليه أصلا هذه التسمية، وكيف قبلت الوزارة تداول مثل هذه التسمية في المدارس؟ هل سألت الوزارة كل هذه الأسئلة الشائكة أم أنها التفتت للحلقة الأضعف في هذه المنظومة لتختبر معه نظرية العصا، لكن بدون الجزرة؟ إن منظومة التعليم التي تعاقب الطالب على غيابه بدون أن تبذل جهدا صادقا في جعل المدرسة بيئة جاذبة ومتكاملة تربويا وعلميا إنما تعترف بعجزها عن حل هذه المشكلة.

من المهم أيضا لاستيعاب أسباب ووسائل حل أي مشكلة كانت أن نحاور أطرافها، فهل أجرت الوزارة أي أبحاث لدعم هذه الدراسة؟ هل استطلعت الوزارة أسباب الغياب ضمن الشرائح العمرية والاجتماعية المختلفة؟ هل قامت المدارس بدعوة شريحة ممثلة من أولياء الأمور لجلسة عصف ذهني أو حتى لقاء يتم فيه شرح تداعيات الغياب على الأبناء على المدى الطويل، وضرورة تعويدهم على الالتزام بالحضور اليومي؟ هل يوجد في مدارسنا حاليا ممثلون لمجلس أولياء الأمور للمشاركة في بث الوعي في مجتمع المدرسة؟

بصراحة، نراقب كأولياء أمور المشهد التعليمي بقلق متنامٍ بسبب الحقائق العنيدة التي نشاهدها في المخرجات، ويكتب المتخصصون في هذه الشأن باستمرار، لكننا ما زلنا نطمح للمزيد من التجاوب من الوزارة مع المشكلات العميقة في التعليم.

المملكة لا تنقصها الخبرات التربوية القادرة إداريا ومعرفيا على وضع حلول تربوية للتعليم، ولدينا أسماء غنية عن التعريف في هذه المجال يمكنها المساهمة في جعل المدرسة بيئة جاذبة لطالب القرن الحادي والعشرين، بشرط أن توضع مقترحاتها في حيز التنفيذ.

من الرائع أن نرى الوفود التعليمية تسافر إلى أصقاع الأرض بحثا عن نموذج تعليمي يحل تحديات التعليم السعودي، لكن على الوفود التوقف للتأمل في هذه الرحلات والإجابة عن سؤال مهم جدا وهو (وماذا بعد؟) فالمعرفة لا تعدو كونها عبئا إضافيا إذا لم يتم توظيف نتائجها بالشكل الصحيح.