كان الأعمق والأصدق والأبهى حضورا، كانوا يقولون لنا إن اقترابك من الشخصيات ذات الوهج والبريق يفقدها كثيرا من التماعها ووهجها، قلت إلا "سعد"، فهو نسيج نادر من المبدعين كما عرفته، هو بلح الشعر وفاكهة الصحافة الشعبية، والحركة الصاعدة في الزمن الشعري بتنوع وعيه الذاتي المناقض للسائد، حين صرخ ضد تجاعيد القصيدة البليدة، وعطب الطرح البارد، "دنيا وفيها البعض يفترش التراب والبعض يفترش الحرير.. والبعض أيامه تبي من كثر ما فيها من الفرحه تطير... دنيا ومليانه عجب البعض كرسيه حجر والبعض كرسيه كنب" يحلق فوق الوعي الضدي، يسجل حروفه على زهر الكائنات.

سعد الثوعي الغامدي ماء شعري شديد العذوبة والخصوبة، أنشب أظفاره في جسد اللغة الحارة فأذابها نهرا على صدر الريح، ونهارا يطعن به أحشاء الفراغ والظلام الحسي، أغفل النقاد منجزه ومشروعه الشعري "مرافعات ضد العشق" كواحد من مؤسسي حركة القصيدة "التفعيلية" الحديثة في موجتها الثانية في المملكة، وساعدهم على ذلك التغييب انشغال "أبو رامي" بتجربته المدلوقة على وجه القصيدة الشعبية والنقد الاجتماعي، والتي حقق من خلالها نصره الباسق وأندلسه المضاع، فقصيدته منزوعة من صباحات الناس، وحكاوى الأزقة، وركض الفراشات في الحقول، وتمتمات العشاق في الليالي المقمرة، أشعل ثلج القصيدة الشعبية وحولها إلى أصابع من ضوء، وأبجديات من جمر وحرقة "في ها الزمن كلش غلي حتى البلاش إبها الزمن إيله ثمن.. حتى نصيبك م الرياح حتى نصيبك م الصياح لا بد تدفع له ثمن.. في ها الزمن لا بد تدفع له ثمن حتى التراب لا بد تدفع قيمته مثل التراب.. ماشي بها الدنيا بلاش غير "البلاوي" و"العماش" أحب شعره طين الأرض، ووجوه الأطفال، ومواسم "الصريم" في "الجادية" وأصوات الباعة في برحة "القزاز" وبوح الأنفاس المعتقة في "حوايا" و"الردف" سعد الثوعي ساخر كبير في ميراثه الكلامي، حين ينتفض كالموقد ضد الوحل وعفن الوجوه الطحلبية، تدمدم في صدره رعود الشتاء، وصواعق الغضب ضد طواحين الزيف والإهمال والعجز والتقصير، أحب هذا الوطن ووهبه شجر العمر، وشرايين القلب، وخزانة الأيام الخضر، حين أغمض عينيه في رحلته الأبدية، كانت "الطائف" تجلس إلى جواره وعلى وسادته كوردة "جوري" لا يغادرها الشذا، لذا أتمنى وقد قلت هذه الأمنية بعد وفاته -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- أن تنهض المؤسسات الثقافية بطباعة أعماله الشعرية، وزواياه النثرية التي نشرت في الصحافة السعودية، فالشعراء عندما يرحلون يتركون لنا رؤوس أقلام ورؤوس أحلام، مع شكري لنادي "الباحة" الأدبي الذي أعاد لنا ذكرى مصباح الشعر الشعبي، وعطر الحروف التي لا تموت، من خلال أمسيته "لوزيات سعد الثوعي".