ما زال المبعوث الدولي إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، يدور في حلقته المفرغة، ويقضي أيامه متنقلا بين صنعاء ونيويورك وجنيف، دون أن يلوح في الأفق ولو بصيص أمل يشير إلى احتمال تحقيق نجاح بسيط في مساعيه المكوكية، ليس لتقصير في جهوده أو سوء في نواياه -لا قدر الله- ولكن لخطأ رئيسي رافقه منذ توليه مهمته خلفا للمغربي جمال بنعمر.
تكمن مشكلة ولد الشيخ في أنه منذ توليه المهمة الجسيمة، لم يستفد من أخطاء سلفه الذي تطارده الاتهامات بأنه السبب في تعقد الأزمة اليمنية، واختار أن يمسك العصا من المنتصف كما يقولون، وتحلى بالصبر أكثر من المطلوب. ربما يرى البعض أن تلك من ضروريات الصفات الواجب توافرها في الوسطاء، ومهارات لا بد من امتلاكها لمن أراد التوفيق بين خصمين، وربما يكون ذلك صحيحا، إلا أن الإفراط في أسلوب التدليل واللين والتراخي لن يؤدي إلا لافتعال مشكلات إضافية، ويزيد التعقيد تعقيدا والأزمة اشتعالا.
لم يتوقف تراخي ولد الشيخ في عدم ممارسة الضغوط على طرفي الانقلاب، بل إن التقارير التي قدمها أمام مجلس الأمن الدولي اتسمت في كثير من الأحيان بالسلبية والتمويه، ومحاولة عدم استثارة المتمردين وإغضابهم، أملا في انقيادهم نحو حل سياسي، ولعل أبرز مثال لذلك هو التقرير الذي قدمه بعد انتهاء مفاوضات الكويت الأخيرة، التي لم يترك وفدا الحوثي والمخلوع وسيلة لإفشالها إلا استخدموها، بدءا من الاعتراض على أجندة المشاورات التي وافقوا عليها في البداية، مرورا بتوجيه الإساءات للطرف الآخر، بمن فيهم ولد الشيخ نفسه، وانتهاء برفض التوقيع على كافة ما أقروه وقبلوا به.
لا بد للوساطة المتوازنة أن تراعي عاملا مهما، هو اتباع سياسة الترغيب والترهيب، والعمل بمبدأ الجزرة والعصا، لا سيما إذا كان أحد طرفي الأزمة مثل جماعة الحوثيين الانقلابية، التي تفتقر إلى أي رصيد شعبي أو ثقافة سياسية، وكل موروثها الذي أرادت أن تحكم به اليمن، عوضا عن حكومته الشرعية، هو سلطة وقوة السلاح غير الشرعي، لذلك مارست التسويف والمماطلة وإضاعة فرص التوصل إلى حل سياسي للأزمة، وإلا كيف يمكن تفسير رفضها المبادرة الأخيرة التي تمنحها ما لم تكن تحلم به، حيث أتاحت لها فرصة المشاركة في السلطة، والإفلات من المساءلة، رغم تعدد الانتهاكات التي ارتكبتها، وحقوق الإنسان التي أهدرتها، والدماء التي أراقتها، فماذا تريد هذه الميليشيات؟ سؤال لا أعتقد أن قادتها يمتلكون الإجابة عنه، إلا إذا تحلوا بالشجاعة -وهذا مستبعد- ليقروا أمام شعبهم بأن الإجابة لدى سادتهم في طهران، الذين حولوهم إلى مجرد أداة لتنفيذ مخطط لا يدرك الحوثيون أبعاده، ولم يكلفوا أنفسهم عناء التفكير فيما سيعود عليهم أو على بلادهم وأهلهم جراء تنفيذه.
إضافة إلى أخطائه التي ارتكبها بنفسه، وقع ولد الشيخ ضحية توازنات دولية لا علاقة لها بالأزمة في اليمن، ومن غير الخافي على الجميع أن دولا كبرى أرسلت إشارات سالبة خلال الفترة الماضية، واستعانت ببعض منظمات الأمم المتحدة لتحقيق هذا الغرض، من خلال تقارير مضللة تجافي الحقيقة وتبتعد عن منطق العقل، ولو أن تلك الدول الكبرى توقفت عن ذلك، وأصرت على فرض إرادة المجتمع الدولي، ممثلة في القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع بالرقم 2216، بإجماع كافة الدول، ورفعت عصا التهديد في وجه طرفي الانقلاب، وأرغمت النظام الإيراني على وقف محاولاته المتكررة لتهريب الأسلحة، لتغيرت صورة المشهد اليمني كثيرا، وعاد السلام إلى ربوعه، والطمأنينة إلى قلوب أطفاله الذين فقدوا مجرد الحلم في مستقبل مشرق، بسبب الحرب التي دمرت مدارسهم وحرمتهم من الجلوس في فصولهم الدراسية.
وليت الحسابات الخاصة اقتصرت على الدول الكبرى التي رغم أنها لم تقم بما يوجبه عليها وضعها كدول رائدة وقائدة، يتوقع أن تسهم في إطفاء الحرائق، إلا أنها في آخر الأمر قدمت مصالحها الخاصة على المهمة الرسالية، وارتضت أن تتبع نهج الميكافيلية التي تبحث عن الغايات دون اعتبار للوسائل، فكثير من التقارير المؤكدة تشير إلى أن دولا في ذات منطقتنا تحاول استغلال الأزمة لابتزازنا وممارسة الضغوط، وهو ما لن ينجحوا فيه -بإذن الله- وإن كان هؤلاء يظنون أن المملكة بحاجة إلى جهودهم العسكرية فقد أخطؤوا وخاب ظنهم، لأن القوات البشرية والإمكانات العسكرية التي وفرتها دول التحالف العربي تفوق ما هو مطلوب لإلحاق الهزيمة بميليشيات التمرد.
الآن عاد ولد الشيخ إلى صنعاء، لمواصلة ما عجز عن تحقيقه طيلة الفترة الماضية، ولأنه يستخدم ذات الأدوات التي ثبت عدم جدواها، مما جعل الانقلابيين يرفضون الموافقة على كل أطروحاته، ويتمسكون بشرعنة انقلابهم والحصول على مكاسب تفوق حجمهم ووضعهم الطبيعي على الأرض. ليس هذا فحسب، بل إن التقارير الواردة من صنعاء تؤكد أنه يتعرض لضغوط مشددة وتهديدات جدية، على غرار ما تعرض له في زيارته السابقة، حينما حاصرت أعداد كبيرة من المسلحين الفندق الذي يقيم به وسط العاصمة صنعاء. والحال كهذه لا يبدو في الأفق ما يشجع على التفاؤل، أو يدعو لانتظار نتائج حقيقية.
ختاما فإن على المجتمع الدولي إدراك أنه يزرع في أرض اليمن حاليا بذورا ستكون ثمارها بطعم العلقم، ليس على مستوى المنطقة فقط، بل على مستوى العالم أجمع، فالتنظيمات الإرهابية ترعرعت وسوف تشب عن الطوق قريبا، مستفيدة من الدعم المتواصل الذي ظل يقدمه لها المخلوع طيلة السنوات الماضية، لاستخدامهم في تنفيذ أهدافه ومآربه الخاصة، وإن كان "تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب"قد وصل خلال الفترة الماضية إلى الدرجة التي صنفته الولايات المتحدة على أساسها بأنه "أخطر فروع التنظيم في العالم"، فلا شك أن الأجواء الحالية تمنحه القدرة على تشكيل خطر أكثر.