هل هناك ارتباط بين ما عانى منه العمل الخيري والدعوي السعودي في الخارج من حصار دولي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبين مشروع التمدد الإيراني الذي طال كل البلاد التي كانت مكاتب الدعوة ومكاتب الإغاثة السعودية تعمل فيها؟ بمعنى: هل كان هناك تفكير أميركي وإيراني مشترك بأن تُزاح السعودية من العمل الإغاثي والدعوي في العالم الإسلامي لتحل محلها إيران، أم أن المسألة لم تكن تتجاوز قراءة جيدة للموقف الدولي من النشاط السعودي، واستغلال سريع من المُخَطِّط الإيراني؟
كلا الأمرين محتمل، لكن النتيجة الواحدة هي أن المشروع النبيل الرائد الذي انطلق من المملكة العربية السعودية لجمع كلمة المسلمين على الفهم الصحيح للإسلام والذي جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخذه عنه السلف الصالح، وكان هو سر سيادة الأمة الإسلامية، هذا المشروع تمت مواجهته بعدد من الخطط، أهمها على الإطلاق إحلال مشروع آخر بديلاً عنه، يُعنى بنشر الخرافة في الأمة وتفريقها على أسس نزاعات تاريخية حدثت بين الجيل الأول، ظل موقف أهل السنة منها ممتثلاً قوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). ولم يجد الغرب في المشروع الإيراني ما يخيفهم، فهو مبني على خرافة مشابهة لخرافة البروتستانت من النصارى والصهاينة من اليهود، وتعتمد كلها على العمل للتمهيد لظهور المُخَلِّص الذي يرى الصهاينة أنه ملك من نسل داود سيقتلون معه الأمم الأخرى، ويرى البروتستانت أنه المسيح الذي سينتقم من المحمديين [المسلمين] واليهود على حد سواء، ويرى حملة المشروع الإيراني من الشيعة أنه المهدي الذي سيقتل تسعة أعشار العرب، والذي لا يعرف قلبُه الرحمة، كما جاء في مروياتهم المكذوبة على جعفر الصادق رحمه الله: "لو قد قام قائمنا لقال الناس: ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمد لرحم". ويَحْكُم كما تقول نصوصهم التي يصححها أمثال محمد صادق الصدر في كتابه "تاريخ ما بعد الظهور" بحكم داود عليه السلام لا بحكم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقتل بشهادة الواحد، كما ينسبون ذلك زوراً إلى شريعة داود، ولا يقتل بشاهدين كما هو شرع نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد أتعب صادق الصدر نفسَه في محاولة تبرير ذلك ليخرج من طائلة ما يوحِي به هذا الأمر من تقارب بين هذا الفكر الخرافي والفكر الصهيوني الأقل خرافية وعدوانية، لكن الأحداث قد تجاوزت الصدر وكتابه، وها هي تؤكد على إيمان ملالي إيران بهذه النزعة الخرافية المعادية للجنس العربي، فالاضطهاد الذي يعاني منه العرب الشيعة في الأحواز وهم رعايا إيرانيون لا يوحي بأي إيمان من جهة دولة الملالي بالأخوة بين الجنس الأعجمي والجنس العربي حتى رغم اجتماعهم في المذهب الشيعي الإثني عشري، وكذلك تسليطهم للشيعة العرب في العراق على أهل العراق السنة ودعمهم اللوجستي والفكري لكل الكتائب المشتغلة بشن حروب إبادة لسنة العراق ككتائب ما يعرف بجيش المهدي، وعصائب أهل الحق [زعموا] وجيش بدر وغيرها من الفيالق التي يمتلئ بها العراق وارتكبت أفظع الجرائم ضد أهل العراق السنة في ديالى وتكريت والبصرة والرمادي، وأخيراً اجتمعت هذه الكتائب تحت إمرة الجنرال الإيراني قاسم سليماني فيما يمكن اختصاره بـ[جحش]، فهو لا يمكن أن يكون حشداً شعبيا كما زعموه، بل هو فصائل مجرمة اجتمعت على فكرة التمهيد لخرافة قتل تسعة أعشار العرب على يد مهديهم، وهذه قضية مُسَلَّمة عند من تخلوا عن عقيدة التَّقِيَّة من معمميهم الذين نشاهدهم هذه الأيام بكثرة وهم يرددون: إن مهمة الحشد الشعبي الأخذ بثأر الحسين من أحفاد بني أمية، ويقولون إن الثأر لم ينته، وما فعله المختار بن عبيد الله الثقفي إنما هو قتل من باشر قتل الحسين، أما مهمة حشدهم الشعبي فهي قتل وتشريد السنة أنصار وأحفاد بني أمية.
وهذا الحديث يمكن العثور عليه في عشرات المقاطع المرئية باللغة العربية والفارسية، ولن أناقش التزييف المتعمد للتاريخ في هذه الأقوال التي تتجاهل أن أهل الكوفة شيعة الحسين هم من قتل الحسين، لكنني أريد أن أصل به إلى أن المشروع الإيراني يلتقي مع المشروع الصهيوني في العمل حتى الآن على إفراغ العراق وسوريا من السنة الذين هم طوال التاريخ الممثلون للأمة في بناء الدولة الإسلامية من الصين حتى جنوب فرنسا، والممثلون لها في جهاد الغزاة والمحتلين منذ الأزل وحتى مطلع العصر الحديث، حيث واجهت الأمة الاستعمار في كل مكان بالثورات والطرد بدءا من الهند وشرق تركستان التي سلمتها بريطانيا للصين، وانتهاء بالمغرب الذي واجه بعدد من الثورات الاستعمارَ الفرنسي والإسباني، ما عدا إيران التي لم تحدث فيها أي ثورة على احتلال بريطانيا التي خرجت تلقائياً بعد إنهاكها في الحربين العالميتين، حيث صنعت قبل أن تخرج من موظف بريد يُدعى رضا بهلوي إمبراطوراً قامت بتسليمه سنة 1920 دولة الأحواز العربية.
وأقول حتى الآن لأنني أعلم أن مناطق عربية أخرى تدخل ضمن المشروع الصهيوني الذي يريد أن يجعل من إيران وأدواتها في المنطقة ذراعاً له.
والغرب يعرف جيداً الأيديولوجية الصفوية والتي تعتمدها دولة ملالي إيران حالياً، فقد كانت له معها مواقف محمودة بالنسبة لهم، فهي سبب عودة العثمانيين مرتين من حصار فيينا عاصمة النمسا اليوم، وهذا وحده كاف كي يثق الغرب بإيران ويرى وجوب رد الجميل لها، إذ لو نجح العثمانيون في اقتحام فيينا ذلك الزمان لم يقف في وجوههم أي عاصمة أوروبية ولأمكن لهم مساعدة مسلمي الأندلس على استرداد بلادهم، أو على الأقل لحمتهم من محاكم التفتيش التي كانت تُنْصَب لهم حتى تم لهم تهجير مسلمي الأندلس عن بكرة أبيهم، لتعود الجزيرة الآيبيرية [إسبانيا] كاثوليكيةً كما كانت قبل دخول الإسلام إليها. والصفويون اليوم في العراق يقومون بتقليد الدور الذي قام به الإسبان في الأندلس، إذ يهجرون سنة العراق وسوريا من بلادهم.
المشروع الإيراني يعمل في العالم الإسلامي اليوم لإنشاء أقليات عقدية في كل دولة إسلامية تتخذ الحقد على الأمة عقيدة لها، وفي يومٍ ما ستحركهم الآلة الإيرانية كي يكونوا جيشاً ضد بلادهم كما فعلت مع الحوثي في اليمن والأقلية الشيعية في لبنان، أو جيشاً تستجلبه للقتال في مناطق الصراع الإيرانية المباشرة كي لا تخسر من جنودها أحداً كما تفعل الآن في سوريا، حيث تجلب إيران للقتال هناك مقاتلين أفغان وعربا بينما لا يشارك سوى القليل النادر من الإيرانيين.
الكل يعلم أن تكوين الأقليات الشيعية يجري على قدم وساق في دول غرب إفريقيا وشرق أوروبا ووسط وشرق آسيا تحت سمع العالم وبصره وبرضا حكومات تلك الدول التي لم ينتفض منها ضد المشروع الإيراني سوى المغرب ونيجيريا والسودان وماليزيا، ولم تكن إيران لتحقق نجاحات هناك لو كان المشروع السعودي مازال نشطاً في تلك البلاد كما كان.
إنني أرى ضرورة إعادة بعث المشروع السعودي الذي تعثر تحت وطأة مضاعفات حماقات وسفاهات11/ 9 بأي طريقة وتحت أي واجهة، على الرغم من الدول الضاغطة والمؤسسات الإعلامية والثقافية والأممية المناوئة للمشروع السعودي، بل على الرغم من مغسولي الأدمغة محدودي الأفق ضيقي العطن من مستشارين وكتاب في بلادنا ممن لازالوا رغم كل ما يرونه حولنا يقفون ضد المشروع السعودي، بل ولا زالوا يسعون جاهدين وبكل ما أوتوا من قوة لوأد المتبقي منه.
وهنا أشير إلى أنني أُقَدِّر الظروف المحاسبية التي دعت رابطة العالم الإسلامي إلى إغلاق عدد من هيئاتها العالمية، لكنني على أمل كبير في أن يكون هذا القرار بقصد الترميم وإصلاح الأخطاء وإعادة البناء، أما إن استمر هذا الأمر دون إيجاد بدائل سريعة أقوى كفاءة وسرعة منه، فلا يعني ذلك سوى الاستمرار في سياسة إخلاء المواقع للحصار الإيراني، وإن كنا نقدر حقاً أن جزءًا كبيراً من انحسار العمل السعودي الإغاثي والدعوي كان سابقاً بمبررات صحيحة إلا أن الاستمرار في هذا الانسحاب حتى يومنا هذا لا أجد له ما يبرره إلا عجز الثقة وجَلَدَ الفاجر كما قال عمر رضي الله عنه.