نعم الله على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى، وشكرها واجب على كل مسلم، مع أنه لن يطيق؛ فقد قال تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، فكيف يطيق الشكر من يعجز عن الإحصاء والحصر؟!

ولأن نعم الله تستحق الشكر -والشكر ذكر وحديث وثناء-، فقد ذهب بعض الناس إلى أن الحديث عن النعم وإظهارها أمام الناس نوع من الشكر، وراحوا يستدلون بالآية: (وأما بنعمة ربك فحدّث)؛ لتغدو كل مظاهر البذخ والترف التي يستعرض الناس بها في مواقع وبرامج التواصل -وفق هذا الفهم- داخلة في باب شكر النعم، فهل أحسن الناس فهم الآية وشكر النعم؟!

في الواقع إن النظر إلى الآية في سياقها وتأمل الأحاديث الواردة في (محاولة تفسيرها) عند ابن كثير مثلا، يدل -مع اجتهاد الرجل- على حاجة الآية لإعادة القراءة والنظر. يقول الرب، جل وعلا:

ألم يجدك يتيما فآوى!

ووجدك ضالا فهدى!

ووجدك عائلا فأغنى!

ثم يضع أمام هذه الحالات الثلاث السابقة، ثلاثة أوامر متلائمة معها تماما:

فأما اليتيم فلا تقهر،

وأما السائل فلا تنهر،

وأما بنعمة ربك فحدث.

وحين نقرأ الآية الكريمة في سياقها، ونلاحظ العلاقات بين كل حالة من الحالات الثلاث والأمر المترتب عليها، ندرك تماما ماهية النعمة التي أمر الإنسان بالحديث عنها. تلك هي نعمة الإيمان والهداية من الضلال، وهي نعمة عظيمة تستحق الشكر والحديث والذكر، أما ما يظنه الناس من أن الآية تبيح لهم استعراض ما لديهم من النعم والمباهاة بها أمام الفقير والضعيف واليتيم والعاجز والفاقد، فمخالف لقيم التكافل الاجتماعي في الإسلام؛ فضلا عن مخالفته الأصول الإسلامية من القرآن والسنة وفعل الصحابة؛ فالله -جل وعلا- يقول في قصة يعقوب، عليه السلام: (يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة)، وقد ذكر القرطبي عن ابن عباس -رضي الله عنه- في تفسيرها أن يعقوب -عليه السلام- حين عزم أولاده على دخول مصر، وكان قد خشي عليهم العين؛ لأنهم أحد عشر رجلا، من أهل الكمال والجمال والبسطة، أمرهم بأن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، وكان لمصر آنذاك أربعة أبواب. وعلى مثل ذلك تواترت الآثار الإسلامية، ومنها ما ذكره البغوي في شرح السنة من أن عثمان -رضي الله عنه- رأى صبيا مليحا فقال: "دسموا نونته (أي سودوا نقرة ذقنه) لئلا تصيبه العين".

ولعل ابن كثير قد تنبه إلى هذا المعنى في شرح الآية -ولو من طرف بعيد- حين أورد رأي مجاهد في شرحها، حيث ذهب إلى أن المقصود بالنعمة هنا النبوة، والنبوة نعمة عظيمة بلا شك، وهي وسيلة الهداية من الضلال، لكنها أيضا وسيلة آنية لا زمنية، ولذا فقد انتهت تماما بوفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، وعليه فإن مطلق الهداية هو مقصود الآية، والهداية باقية أزلية، وهو ما يتفق مع وظيفة النص القرآني الذي يخاطب كل البشر، في كل الأزمنة، وليس مختصا بعصر النبوة ولا مقصورا على شخص النبي.

من هنا يتضح أن الأمر في الآية هو بذكر واستعراض نعمة الهداية للإسلام وحدها، من باب الشكر؛ لأنها النعمة التي يسهم ذكرها في صلاح المجتمع. وقد ورد عن الحسن بن علي -كرم الله وجهه- ما يدعم هذا المعنى، إذا جاء في تفسيره للآية قوله (ما عملت من خير فحدّث إخوانك)، والخير اسم لكل فضيلة تترتب على الهداية للإسلام.

أما ما أورده ابن كثير من الأحاديث قبل تفسير مجاهد السابق فمعظمه داخل في باب شكر الناس على الإحسان ولا موجب للاستدلال به تفسيرا للآية، ومن ذلك مثلا حديث جابر بن عبدالله: (من أُعطي عطاء فوجد فليجز به، فمن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره)، وحديث (لا يشكر الله من لم يشكر الناس)، وحديث جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- للمهاجرين لمّا اشتكوا إليه ذهاب الأنصار بالأجر كله، فقال: (ألا دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم).

وعليه فإن تفسير: (وأما بنعمة ربك فحدّث) لا يجيز للناس ما نراه اليوم من انتشار لظاهرة تصوير الموائد والثياب والحلي والبيوت والرحلات في أقطار الأرض، واستعراض ذلك كله أمام الناس، بل إنه ليخشى على من يفعل من العين التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس (العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقت إليه العين).