وجود حيوان "اليوني كورن" أو أحاديّ القرن في مخيّلة ألأوروبيين في القرون الوسطى كحيوان جميل يبدو مثل جواد أبيض رشيق بقرن على أنفه، وقد شاع لديهم بأنّه يعيش في بعض مناطق إثيوبيا وما وراءها.
لكنّ الرحالة الشهير "ماركو بولو" كتب بعد ذلك أنّه صادف اليوني كورن بالفعل أثناء رحلاته، وقد تفاجأ أنّه لم يكن سوى "حيوان أسود بدين له حوافر كحوافر الفيل وجلد كجلد الجاموس ورأس كرأس الخنزير ولسان خشن شائك"! وهذا يشير إلى أنّ ما رآه بولو على الأغلب هو الكركدنّ "وحيد القرن" الذي نعرف أنّه غير محبّب في الخيال العربي، لا سيما إذا اعتمدنا على استعمال المتنبّي له كصورة في هجائه عندما قال: "وشعرٌ مدحت به الكركدنّ بين القريض وبين الرقى".
يحلل المفكر الإيطالي "امبرتو إيكو" هذه المفارقة بذهابه إلى أنّ بولو أخطأ في ظنّه أن ما رآه هو "اليوني كورن"، مرجعا ذلك إلى قصور الذهن البشري الذي يحتم علينا تأويل مشاهداتنا من خلال أطر خلفياتنا المعرفيّة، وهو القصور الذي أوقع بولو في استحضار أسطورة "اليوني كورن" وإسقاطها على "الكركدنّ" دون دليلٍ على وجود ارتباط بينهما. ربما كان إيكو محقّا ولكني أميل إلى وجود أساس حقيقي لما تصوره بولو، وهو أساس متعلّق بطبيعة الخيال البشري.
ينزع خيالنا في العادة إلى المبالغة في كساء "الغائب عن الحسّ" بصور إيجابية محببة، ما لم يمسنا بتجربة مباشرة تعيق ذلك.
لأن الخيال لا حدود له، فعادة ما تنحو تلك الصور الإيجابية نحو أجواء أسطورية لا متناهية.
من الممكن أن نعزو ذلك ببساطة إلى مبالغات المخبرين عن مشاهداتهم في الرحلات، بغية الاستئثار بالاهتمام وتحفيز الآخرين إلى المغامرة، ولكن يبدو أن أدمغتنا تخفي أسبابا أعمق لهذا السلوك.
يذكر عالم الأعصاب "ديفيد إيجلمان" نتائج بعض تجارب فريقه، والتي عرضوا فيها على بعض الرجال ومضات خاطفة لصور نساء، ثم طلبوا منهم تقييمها على مقياس الجمال، وتقييم الصور نفسها في مرحلة لاحقة مع قضاء أكثر مما يريدون من الوقت للتفحص. كانت تشير النتائج باستمرار إلى ميل الرجال شبه الدائم لإعطاء تقييمات جمال أعلى لكل ما لا يحظون بمشاهدته في فرصة كافية من الزمن.
يؤكد إيجلمان أن التجارب اليومية تؤيد تلك النتائج أيضا، فكثيرا ما يظن الرجل أن جمالا نادرا قد فاته بمجرد لمحه امرأة في نظرة خاطفة.
يقدم علم النفس التطوري تفسيرا لهذه النتائج، مفاده أن ميل الدماغ لخلق الأسطورة عن شخص ما بأنه جميل يرفع من نسبة الدافعية للاقتراب منه والاقتران به، بخلاف جريان الأمر في غياب هذه السمة.
فاكتشاف أن المرأة الهدف أقل جمالا من الأسطورة التي رسمها الدماغ من قبل لا يكلّف أكثر من الانسحاب، في حين أن تفويت جمال تكلفه إياه لا مبالاة الدماغ تجاه التزاوج غير قابل للتعويض على الأغلب. وهو أمر يصب في مصلحة تناسل الجنس في نهاية الأمر.
لعل ميل أدمغتنا إلى رسم الأساطير الجمالية عن المغيبات البعيدة عن الحواس ليس مقتصرا على ما يتعلق بغرض التكاثر فحسب، بل هو أوسع مجالا، وربما كان له دور فعال في كل حركات الهجرة البشرية وتشييد الحضارات على مرّ التاريخ، بحيث لا يضاهيه في ذلك دافع منطقي محسوب.
هل كان من الوارد أن يقع كولمبس على البرّ الأميركي لولا ما حملته مخيلته عن أرض الهند؟
ومثال كولومبس مهم في توصيف أثر هذه السمة، إذ إن أغلب منجزات البشرية الحضارية تمت بطرق مشابهة. فكثيرا ما حُملت إلينا المعرفة على أجنحة الأسطورة. لولا هوس الباحثين عن حجر الفلاسفة وأكسير الحياة، ما كان لعلم الكيمياء أن يظهر إلى الوجود، ولو أن المنجمين لم يرفعوا رؤوسهم إلى الكواكب شغفا بمعرفة المستقبل، ما كان للبشرية أن تعرف علوم الفلك والفيزياء الكونية.
ولكن المؤسف أن لهذا الميل الدماغي نحو أسطورة المغيبات آثاره البشعة أحيانا، فكثيرا ما أدى إلى حدوث الكوارث والمجازر، ومن أمثلة ذلك ما فعله المهووسون الأوروبيون في إفريقيا خلال سعيهم إلى نهر النيجر السحري أو وادي العاج العظيم، ومثله ما ارتكبوه من جرائم في القارة الأميركية بحثا عن مدينة "إلدورادو" الذهبية.
ربما من الجيد أن يحفزنا خيالنا نحو المغامرة، ولكن علينا التذكر دائما أن دفع ضريبة ذلك الخيال من رصيدنا الإنساني والأخلاقي أمرٌ من المؤسف، بل من المشين تحمله.
من زاوية أخرى، ليس علينا أن يأخذنا الأسى كلما تنبهنا على حقيقة "كركدن"، توهمنا ذات يوم أنه "يوني كورن" ظريف، فالحياة حبلى بمثل هذا والعمر أقصر من اجترار الأسى كل مرة.
يروى أن بورخيس قال ذات يوم "لو كان لأعمى منذ الولادة أن يبصر فجأة، لشعر بالصدمة والأسف، فليس لواقع عالمه أن يجاري جمال ما حملته مخيّلته عنه على كل حال".