"نحن في سباق مع الزمن، إما أن نقتل التخلف، أو يقتلنا التاريخ"، المتأمل في هذه المقولة التي قالها "غازي القصيبي" سيجدها تنطبق علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى، فإذا ما تأملنا هذا البيت للحمداني: سيذكرني قومي إذا جد جدهم، وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر. سنجده ينطبق على قائل العبارة الأولى "القصيبي"، وتنطبق عليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، فإذا ما ربطنا بين المقولتين سنجد علاقة وثيقة بينهما، فلا يُجَد الجِد إلا حين يخوض المجتمع سباقه مع الزمن لقتل التخلف، سباقا، ما إن يبدأ حتى يُفتقد فيه ذوو الهمم العالية، ونحن اليوم أمام كل هذه التحديات والأزمات التي تحيط بنا لا نفتقد أمثال "القصيبي" إلا لما كان يتمتع به من صفات قلّ أن توجد في غيره مجتمعة، ما يخدم المقال منها أنه -رحمه الله- كان محاورا شرسا، متحدثا بارعا، رشيق اللفظ، ينتقي الكلمات التي تساعده على كسب القضية محل النقاش.

وإن الحديث بهذه الكيفية فن لا يجيده الكثيرون، لا لأنهم غير موهوبين، إنما كسل منهم ولا مبالاة، فهذا الفن ليس موهبة بقدر ما هو نتاج عملية مرهقة من التدريب والتثقيف والاطلاع والقراءة المتعمقة في الكتب وأحوال المجتمعات والناس، بالإضافة إلى بضع صفات يمكن اكتسابها بطرق شتى، كالتحلي بالتفكير العلمي والمصداقية والموضوعية، والتفريق بين أحاديث جلسات السمر وبين النقاشات الرسمية ومخاطبة الجمهور وإلقاء التصاريح الإعلامية.

إن الطريق ولا شك شاق مرهق قد كان الراغبون في السير فيه يعتمدون بالكلية على مجهوداتهم وصفاتهم الفردية، أما اليوم فهنالك العديد من الدورات المعتمدة والمتخصصة في فن الحوار ومخاطبة الجمهور، دورات تهدف إلى تعبيد الطريق أمام الراغبين وتعريفهم بتقنيات الإقناع وآليات مخاطبة الجمهور والتعامل معهم، ومتي يلجأ المحاور إلى خفض الصوت ومتى يباغت، ثم كيف يتجنب المطبات الحوارية وكيف يكسب القضية محل النقاش ببضع كلمات منتقاة، وهكذا.

إلى هنا وينتهي الحديث عن "فن الحديث" ليبدأ الخوض في باب التمني والأحلام والكثير من الرجاء، بأن يتم إلزام كل من يتم ترشيحه لشغل منصب رفيع في الدولة أن يحضر دورات مكثفة في فن الحوار ومخاطبة الجمهور وإلقاء التصاريح الإعلامية، فهؤلاء معنيون أكثر من غيرهم بإتقان هذا الفن كونهم الأكثر مواجهة للجمهور وتمثيلا للمجتمع في مختلف المناسبات والمحافل.

لا بد من استحداث جهة متخصصة توكل إليها مهمة تقييم المرشحين، وأن تتمتع بالاستقلالية، جهة لا مهمة لها إلا إخضاع المرشحين لمجموعة من التدريبات النفسية والعقلية بهدف تهيئتهم لمواجهة مختلف الظروف في بيئة العمل، وأن تختبرهم على كيفية التعامل مع الجمهور، سواء تعامل إعلامي أو خدمي، أي أن مهمتها تتمحور حول التهيئة قبل تولي المنصب، فالمنصب أمانة، ومع الأمانة لا يجوز وضع الرهان على الصفات الفردية، كما لا يصح انتظار ما تجود به المجهودات الفردية.

إنني كمواطن بت أشعر بالتيه وأنا أرى كيف يتم مرارا وتكرارا هدم الكثير من العمل والتضحيات بجملة واحدة غير محسوبة ينطق بها سعادة المسؤول، أو تصرف فردي طائش منه. إن واقعنا اليوم لا يحتمل أي هدم وإن كان عفويا غير مقصود، والشرخ مهما صغر حجمه فلن يلتئم بالاعتذار وترديد عبارات على شاكلة: خانني التعبير، وخانتني الدراسات، وأنا آسف والله ما كان قصدي.

واستكمالا للتمني والتطلع لرؤية أصحاب المعالي والأمناء وأصحاب الفخامة وشتى أنواع الرؤساء والمديرون وهم يتركون مكاتبهم الفاخرة ثم ينزلون للشارع ويمشون بين الحواري وفي الأزقة، فالهمم العالية لا تكتسب إلا بالمصداقية، والمصداقية لا تكتسب إلا بالوقوف على ما يحدث في أرض الواقع، والواقع ليس في أي مكان آخر سوى هنا، هنا حيث يتزاحم الناس ويبنون أحلامهم وتطلعاتهم التافهة والعريضة على حدٍّ سواء، هنا حيث الزحام خانق، والآمال تخنق، والأمل بالله حاضر في النفوس. الواقع هنا وليس في المكاتب الفاخرة وعبارات المدح والإطراء ونظرات الإجلال الزائفة، الواقع هنا وأي انفصال عما يجري في الشارع يعني حتمية فشل المسؤول لا في الإدارة فقط، بل حتى في نطق جملة مفيدة واحدة.

إننا نتغنى بالمخلصين وأصحاب الهمم العالية كـ"القصيبي" دون الانتباه إلى أن الشذوذ يجب أن يتجه نحو الانحدار لا الصعود، بمعنى أن يكون الإخلاص والتفاني هو السائد، بينما التخبط حالة شاذة، لا العكس، فما يحدث في حقيقة الأمر أنه حين يتميز فرد واحد أو بضعة أفراد بين المسؤولين، فهذا التميز لم يحدث لو لم يكن السائد هو اتخاذ المسؤولين وضعية "حجر العثرة" على الطريق. من الجميل أن تنبت وردة بين الأحجار، لكن الأجمل أن تتم إزالة كل الأحجار، ولا مجال لإزالة الحجارة من على الطريق إلا ببناء أنظمة صارمة للتهيئة قبل تولي المنصب والمراقبة والمحاسبة بعد تولي المنصب، فالدول تنقسم اليوم بشكل مخيف، بعضها يتقدم بسرعة إلى الرقي والتحضر، وبعضها يعود إلى الوراء بشكل أسرع، ولا مكان للمجاملة والقول بأن هنالك أماكن مخصصة للجلوس والاكتفاء بمتعة المشاهدة.